أَراد الحكم الدينى فصحيح، [أو] إِن أَراد الحكم الكونى القدرى فلا يصح هذا الإِطلاق بل لا بد فيه من التفصيل كما تقدم بيانه. وإِرسال النفس فى أَحكامه التى يسخطها ويبغضها، وإِرسالها فى أَحكامه التى يجب منازعتها ومدافعتها بأَحكامه خروج عن العبودية.
وقيل: نعت الفقير ثلاثة أَشياءَ: حفظ سره، وَأَداءُ فرضه وصيانة فقره.. قلت: حفظ السر كتمانه صيانة له من الأَغيار، وغيرة عليه أَن ينكشف لمن لا يعرفه ولا يؤمن عليه. وَأَداءُ الفرض قيام بحق العبودية وصيانة الفقر حفظه عن لوث مساكنة الأَغيار، وحفظه عن كل سبب يفسده وكتمانه ما استطاع. وقال إبراهيم بن أَدهم: طلبنا الفقر فاستقبلنا الغنى، وطلب الناس الغنى فاستقبلهم الفقر. وسئل يحيى بن معاذ عن الغنى فقال: هو الأَمن بالله عَزَّ وجَلَّ. وسئل أَبو حفص: بماذا ينبغى أَن يقدم الفقير على ربه؟ فقال: ما ينبغى للفقير أن يقدم على ربه بشيء سوى فقره. وقال بعضهم: إِن الفقير الصادق ليخشى من الغنى حذراً أَن يدخله فيفسد عليه فقره، كما يخشى الغنى الحريص من الفقر أَن يدخله فيفسد عليه غناه. وقال بشر بن الحارث: أَفضل المقامات اعتقاد الصبر على الفقر إلى القبر. قلت: ومن هاهنا قال القائل:
فقر وصبر هما ثوبان تحتهما ... قلب يرى أُلفة الأَعياد والجمعا
الدهر لى مأْتم إِن غبت يا أَملى ... والعيد ما دمت لى مرَأى ومستمعا
وسئل ابن الجلاءِ: متى يستحق الفقير اسم الفقر؟ فقال: إِذا لم يبق عليه بقية منه. فقيل له: كيف ذلك؟ فقال: إِذا كان له فليس له، وإِذا لم يكن له فهو له. قلت: معنى هذا أَنه لا يبقى عليه بقية من نفسه، فإِذا كان لنفسه فليس لها بل قد أَضاع حقها وضيع سعادتها وكمالها. وإِذا لم يكن لنفسه بل كان كله لربه فقد أحرز كل حظ له وحصل لنفسه سعادتها فإنه إذا كان لله كان الله له، وإذا لم يكن لله لم يكن الله له فكيف تكون نفسه له؟ فهذا من الذين خسروا أَنفسهم.
وقيل: حقيقة الفقر أن لا يستغنى الفقير فى فقره بشيء إلا بمن إليه فقره. وقال أَبو حفص:"أحسن ما توسل به العبد إِلى مولاه دوام الفقر إِليه على جميع الأَحوال، وملازمة السنة فى جميع الأَفعال، وطلب القوت من وجه حلال". وقال بعضهم:"ينبغى للفقير أَن لا تسبق همته خطوته". قلت: