حَتَّى إِذَا سَوَّيْتُكَ وَعَدَلْتُكَ مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْنَ وَللأَرْضِ مِنْكَ وَئِيد، فَجَمَعْتَ وَمَنْعْتَ حَتَّى إِذَا بَلَغْتَ التَّراقى، قُلْتَ: أَتَصَدَّقُ، وَأَنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ"، ومن هاهنا خذل من خذل ووفق من وفق، فحجب المخذول عن حقيقته ونسى نفسه فنسى فقره وحاجته وضرورته إلى ربه، فطغى [وبغا] وعتا فحقت عليه الشقوة، قال تعالى:{كَلاّ إِنّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىَ أَن رّآهُ اسْتَغْنَىَ}[العلق: ٦-٧] ، وقال:{فَأَمّا مَنْ أَعْطَىَ وَاتّقَىَ وَصَدّقَ بِالْحُسْنَىَ فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَىَ وَأَمّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىَ وَكَذّبَ بِالْحُسْنَىَ فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَىَ}[الليل: ٥-١٠] ، فأَكمل الخلق أكملهم عبودية وأَعظمهم شهوداً لفقره وضرورته وحاجته إِلى ربه وعدم استغنائه عنه طرفة عين، ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: "أَصلح لى شأنى كله، ولا تكلنى إِلى نفسى طرفة عين ولا إِلى أَحد من خلقك"، وكان يدعو: "يا مقلِّب القُلُوبِ ثَبِّتْ قلبِى عَلَى دينك". يعلم صلى الله عليه وسلم أَن قلبه بيد الرحمن عَزَّ وجَلَّ لا يملك منه شيئاً، وأَن الله سبحانه يصرفه كما يشاءُ كيف وهو يتلو قوله تعالى:{وَلَوْلاَ أَن ثَبّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً}[الإسراء: ٧٤] ، فضرورته صلى الله عليه وسلم إِلى ربه وفاقته إِليه بحسب معرفته به، وحسب قربه منه ومنزلته عنده. وهذا أَمر إِنما بدا منه لمن بعده ما يرشح من ظاهر الوعاءِ، ولهذا كان أَقرَبَ الخلق إِلى الله وسيلة وأَعظمهم عنده جاهاً وأَرفعهم عنده منزلة، لتكميله مقام العبودية والفقر إِلى ربه عز وجل، وكان يقول لهم: "أَيهَا النَّاسُ، مَا أُحبُّ أَنْ تَرْفَعُونِى فَوْقَ مَنْزِلَتِى إِنَّمَا أنا عَبْدُ"، وكان يقول: "لا تُطْرونِى كَمَا أَطْرَتِ النصارى المسيح ابن مريم وإِنما أَنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله".
وذكره الله سبحانه بسمة العبودية فى أَشرف مقاماته، مقام الإِسراءِ ومقام الدعوة ومقام التحدى، فقال:{سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَىَ بِعَبْدِهِ لَيْلاً}[الإسراء:١] ، وقال:{وَأَنّهُ لّمَا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ}[الجن: ١٩] ، وقال:{وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مّمّا نَزّلْنَا عَلَىَ عَبْدِنَا}[البقرة: ٢٣] ، وفى حديث الشفاعة: "إِنَّ الْمَسِيحَ يَقُولُ لَهُمْ [يوم القيامة] : اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ عَبْدٍ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ"، فنال ذلك المقام