ومضمون قول هذه الفرقة أن هذه حجة صحيحة إذا قالوها على وجه الاعتقاد لا على جهة الاستهزاء فيكون للمشركين على الله الحجة، وكفى بهذا القول فساداً وبطلاناً.
الفرقة الثانية: جعلت هذه الآيات حجة لها فى إبطال القضاء والقدر والمشيئة العامة إذ لو صحت المشيئة العامة وكان الله عز وجل قد شاء منهم الشرك والكفر وعبادة الأوثان لكانوا قد قالوا الحق وكان الله [عز وجل] يصدقهم عليه ولم ينكر عليهم، فحيث وصفهم بالخرص الذى هو الكذب، ونفى عنهم العلم، دل على أن هذا الذى قالوه ليس بصحيح، وأنهم كاذبون فيه إذ لو كان علماً لكانوا صادقين فى الإخبار به ولم يقل لهم:{هَلْ عِندَكُمْ مِنْ عِلْمٍ}[الأنعام: ١٤٨] ، وجعلت هذه الفرقة هذه الآيات حجة لها على التكذيب بالقضاء والقدر، وزعمت بها أن يكون فى ملكه ما لا يشاءُ، ويشاء ما لا يكون، وأنه لا قدرة له على أفعال عباده من الإنس والجن والملائكة ولا على أفعال الحيوانات، وأنه لا يقدر أن يضل أحداً ولا يهديه ولا يوفقه أكثر مما فعل به، ولا يعصمه من الذنوب والكفر ولا يلهمه رشده، ولا يجعل فى قلبه الإيمان، ولا هو الذى جعل المصلى مصلياً والبر براً والفاجر فاجراً والمؤمن مؤمناً والكافر كافراً، بل هم الذين جعلوا أنفسهم كذلك. فهذه الفرقة شاركت الفرقة التى قبلها فى إِلقاء الحرب والعداوة بين الشرع والقدر: فالأولى تحيزت إلى القدر وحاربت الشرع، والثانية تحيزت إلى الشرع وكذبت القدر.
والطائفتان ضالتان، وإحداهما أضل من الأخرى.
والفرقة الثالثة: آمنت بالقضاء والقدر، وأقرت بالأمر والنهى، ونزلوا كل واحد منزلته. فالقضاءُ والقدر يؤمن به ولا يحتج به، والأمر والنهى يمتثل ويطاع. فالإيمان بالقضاء والقدر عندهم من تمام التوحيد وشهادة أن لا إلَه إلا الله، والقيام بالأمر والنهى موجب شهادة أن محمداً رسول الله. وقالوا: من لم يقر بالقضاء والقدر ويقوم بالأمر والنهى فقد كذب بالشهادتين وإن نطق بهما بلسانه. ثم افترقوا فى وجه هذه الآيات فرقتين: فرقة قالت: إنما أنكر عليهم استدلالهم بالمشيئة العامة والقضاء والقدر على رضاه ومحبته لذلك، فجعلوا مشيئته له وتقديره له دليلاً على رضاه به ومحبته له، إذ لو كرهه وأبغضه لحال بينهم وبينه، فإن الحكيم إذا كان قادراً على دفع ما يكرهه ويبغضه دفعه ومنع من وقوعه وإذا لم يمنع من وقوعه لزم إماعدم