لا في اللغة ولا في اللهجة ولا في المذهب الكلامي، وإما أن نعترف بأن هذا الشعر لم يصدر عن هذه القبائل، وإنما حمل عليها بعد الإسلام حملا". ثم يقول: "ونحن إلى الثانية أميل منا إلى الأولى. فالبرهان القاطع قائم على أن اختلاف اللغة واللهجة كان حقيقة واقعة بالقياس إلى عدنان وقحطان".
وظاهر أنه هنا يشك في الأدب الجاهلي المنسوب إلى شعراء من القبائل العدنانية، بحجة أن هذه القبائل كانت تختلف في اللهجات، وأن كل قبيلة كانت لها لهجة خاصة بها، ومن ثم يرفض الشعر الجاهلي المنسوب إليهم؛ لأنه جاء بلغة واحدة، ولا أثر لاختلاف لهجات القبائل فيه، ويعتقد أن هذا الأدب المنسوب إلى الأدباء الجاهليين الشماليين، لم يصدر عنهم، وإنما حمل عليهم حملا.
حقيقة، كانت هناك لهجات بين القبائل العربية، لكل قبيلة لهجتها الخاصة، ولكن اختلاف اللهجات بين العرب العدنانيين -كالاختلاف بين لهجات القبائل القحطانية- كان اختلافًا يسيرًا، ولم يكن اختلافًا جوهريًّا؛ لأنه اختلاف بين أخوات من فرع واحد، وشأن الاختلاف بين هذه اللهجات أقل بكثير من الاختلاف بين عربية الشماليين وعربية الجنوبيين فالاختلاف بين هذه اللهجات العدنانية، بعضها وبعض، ليس إلا اختلافًا بين أخوات بينها تقارب شديد وكبير، مثله كمثل الاختلاف بين اللهجات في مناطق الدولة الواحدة، وإنا لنرى ذلك مشاهدًا في كل أمة وفي كل دولة في جميع العصور، ففي جمهورية مصر العربية مثلًا، هناك لهجة القاهرة، ولهجة الإسكندرية، ولهجة الوجه البحري، ولهجة الصعيد، بل وفي مناطق كل من الوجهين القبلي والبحري اختلاف في اللهجات بين سكانها فهناك لهجة الشرقية، ولهجة الغربية، ولهجة منطقة القنال، وهكذا في كل بلد عربي، وغير عربي، وفي كل دولة من دول العالم، في جميع العصور. ولكن اختلاف هذه اللهجات لا يعدو أن يكون خلافًا يسيرًا قليلًا، وجميع المناطق يفهم كل منها الآخر بسهولة ويسر، وهذا الاختلاف كذلك لا يستلزم اختلافًا في لغة الأدب، بل إن الواقع يثبت -والتاريخ على مر العصور يؤيد- أن سكان كل دولة، مهما اختلفت لهجاتهم المحلية في مناطقهم، فإنهم يتفقون جميعًا في اللغة الرسمية، لغة الأدب، فالجميع يؤلفون بها أدبهم، وكلهم يفهم هذه اللغة، فهم جميعًا متحدون في هذه اللغة، مع اختلاف اللهجات المحلية٦٣. وإذا كانت الأدلة