من أثبت لله شيئا من صفات الكمال من فهم معنى الصفة وتحقيقها، فإن من أثبت له سبحانه السمع والبصر أثبتهما حقيقة، وفهم معناهما فهكذا سائر الصفات المقدسة، يجب أن تجري هذا المجرى وإن كان لا سبيل لنا إلى معرفة كنهها وكيفيتها فإن الله سبحانه لم يكلف العباد ذلك ولا أراده منهم ولم يجعل لهم إليه سبيلا. بل كثير من مخلوقاته بل أكثرها لم يجعل لهم سبيلا إلى معرفة كنهه وكيفيته وهذه أرواحهم التي هي أدنى إليهم من كل دان قد حجب عنهم معرفة كنهها وكيفيتها. وقد أخبرنا سبحانه عن تفاصيل يوم القيامة وما في الجنة والنار، فقامت حقائق ذلك في قلوب أهل الإيمان وشاهدته عقولهم ولم يعرفوا كيفيته وكنهه فلا شك أن المسلمين يؤمنون أن في الجنة أنهارا من خمر وأنهارا من عسل وأنهارا من لبن، ولكن لا يعرفون كنه ذلك ومادته وكيفيته إذ كانوا لا يعرفون في الدنيا الخمر إلا ما اعتصر من الأعناب، والعسل إلا ما قذفت به النحل في بيوتها، واللبن ما خرج من الضروع، والحرير إلا ما خرج من فم دود القز، وقد فهموا معاني ذلك في الجنة من غير أن يكون مماثلا لما في الدنيا. قال ابن عباس رضي الله عنهما:"ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء"١ ولم يمنعهم عدم النظير في الدنيا من فهم ما أخبروا به في ذلك؟ فهكذا الأسماء والصفات لم يمنعهم انتفاء نظيرها في الدنيا ومثلها من فهم حقائقها ومعانيها بل قام بقلوبهم معرفة حقائقها وانتفاء التمثيل والتشبيه عنها وهذا هو المثل الأعلى الذي أثبته سبحانه لنفسه في ثلاثة مواضع من القرآن:
١ أخرجه ابن جرير فى تفسيره ١/ ١٧٤، وأبو نعيم في صفة الجنة ١/ ١٦٠ رقم ٤ ١- ١٢٥. وأورده ابن كثير في تفسيره ١/ ٩١، والسيوطي في الدر المنثور ١/ ١٦.