البشر، فإن من لا تعلم حقيقة ذاته وماهيته، كيف تعرفه كيفية نعوته وصفاته؟ ولا يقدح ذلك في الإيمان بها ومعرفة معانيها، فالكيفية وراء ذلك، وكما أنا لا نعرف معاني ما أخبر الله به من حقائق ما في اليوم الآخر، ولا نعرف حقيقة كيفيته، مع قرب ما بين المخلوق والمخلوق. فعجزنا عن معرفة كيفية الخالق وصفاته أعظم وأعظم.
فكيف يطمع العقل المخلوق المحصور المحدود في معرفة كيفية من له الكمال كله، والجمال كله، والعلم كله، والقدرة كلها، والعظمة كلها والكبرياء كله، من لو كشف الحجاب عن وجهه لأحرقت سبحاته السموات والأرض وما فيهما وما بينهما، وما وراء ذلك. الذي يقبض سمواته بيده، فتغيب كما تغيب الخردلة في كف أحدنا، ونسبة علوم الخلائق كلها إلى علمه أقل من نسبة نقرة عصفور من بحار العلم الذي لو أن البحر- يمده من بعده سبعة أبحر- مداد، وأشجار الأرض- من حيث خلقت إلى يوم القيامة- أقلام: لفني المداد وفنيت الأقلام، ولم تنفد كلماته. الذي لو أن الخلق من أول الدنيا إلى آخرها - إنسهم وجنهم وناطقهم وأعجمهم- جعلوا صفا واحدا: ما أحاطوا به سبحانه، الذي يضع السموات على إصبع من أصابعه، والأرض على إصبع والجبال على إصبع، والأشجار على إصبع، ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك. فقاتل الله الجهمية والمعطلة أين التشبيه ههنا؟ وأين التمثيل؟ لقد اضمحل ههنا كل موجود سواه، فضلا ممن يكون له ما يماثله في ذلك الكمال ويشابهه فيه. فسبحان من حجب عقول هؤلاء عن معرفته، وولاها ما تولت من وقوفها مع الألفاظ التي لا حرمة لها، والمعاني التي لا حقائق لها"١. (١)