وشر وشرك، فلما جاءهم أفضل كتاب بواسطة أفضل رسول كفروا به وكذّبوه, قال الله تعالى: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} هذا تهديد لهم بعذاب عظيم لم يكن لهم في الحسبان، وهو تهديد لكل أمة بلغها هذا الكتاب فأعرضت عنه، ولم تتخذه إماما وحكما، ولم تستضيء بنوره، ولو اهتدت بهداه، لابد أن يصيبها عذاب عظيم فوق ما يخطر بالبال, ونحن نشاهد هذا العذاب اليوم بأعيننا يصيب الشعوب التي أعرضت عن كتاب الله ورفضت شريعته وسنة رسوله بعدما علمت يقينا ما أدركه أسلافها من السعادة والعز والنصر المبين بإتباع هذا الكتاب الكريم, والرسول ذي الخلق العظيم.
وبعد هذا التمهيد قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} اللام واقعة في جواب قسم، أي وتالله لقد سبقت كلمتنا لعبادنا الذين أرسلنهم إلى الأمم ليقوموا بإرشادها وهدايتها وإنقاذها من أوحالها ونكباتها، وإخراجها من الظلمات إلى النور، وتلك الكلمة التي سبقت من الله تعالى هي قوله سبحانه: {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} على كل من عاداهم من أقوامهم وغيرهم، {وَإِنَّ جُنْدَنَا} وهم المرسلون وأتباعهم الصادقون {لَهُمُ الْغَالِبُونَ} لكل من عاداهم ووقف في طريقهم، وعد الله لا يخلف الله وعده.
وقد رأينا هذا الوعد بعيون بصائرنا عبر التاريخ الطويل يتحقق على أيدي شعوب مختلفة في الجنس واللون والأوطان، ولكنها متفقة في الاهتداء بالقرآن، وحروب المغاربة في أوربا من طارق إلى المرينيين وحروب المسلمين في فلسطين وبلاد الشام لجميع الدول النصرانية مدة مائتي عام, وقبل ذلك حروب العرب في العراق, وخراسان, وإفريقية, وبلاد السند، وكل ذلك أدلة قاطعة, وبراهين ساطعة.
وما أصاب المسلمين من الشتات والذلة والهوان وضنك العيش في هذه الأزمنة المتأخرة حجج قائمة عليهم تسجل عليهم أنهم هم الذين أخلفوا ونقضوا عهدهم كما قال تعالى في سورة (الأنفال: ٢٣) : {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌْ} .
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره هذه الآية: "يخبر تعالى عن تمام عدله، وقسطه في حكمه بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلاّ بسبب ذنب ارتكبه كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} اهـ.
وقال تعالى في سورة (مريم: ٥٤-٥٥) : {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً، وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} .
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: "هذا ثناء من الله تعالى على إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام، وهو والد عرب الحجاز كلهم بأنه صادق الوعد وقال ابن جريج: "لم يعد ربه عدة إلاّ أنجزها"، يعني ما التزم عبادة قط بنذر إلاّ قام بها ووفاها