في الكلام على جُهَالِ مُنتَحِلي الجدلِ في قولهم: ليس على النافي دليلٌ، ولَا على المُنكِرِ حُجةٌ لنفيِه وإنكارِه، وإنما ذلك على المُثبِتِ خاصَّةً، فهو المُدَعِي.
اعلم أن من نَفَى شيئاً وأنكرَه، وادَعى أنه نفاه بدليلٍ ظاهرٍ وحجةٍ واضحةٍ يُمكِنُ غيرُه موافقتَه له في ذلك النفي والإِنكارِ ومعرفتَه، وأنه لم يَنْفِه بالحَدْسِ والتخمينِ ولا بحِسٍّ تفردَ به عن ذوي الإِحساس (١)، كان عليه إقامةُ الدليلِ على صِحةِ نفيهِ، والبَينَةِ على إنكارِه، ولَيس بين إثباتِه ونفيه فرق الْبَتَةَ بحُجتِه التي ادعى وجودَها وظهورَها، كما أن من أثبتَ شيئَاً بحجةٍ ظاهرةٍ، كان عليه إثباتُه بحجتِه التي ادَّعاها، ولَزِمَه من الدَّلالةِ على صحةِ إنكارهِ ما عليه من الدَّلالةِ بصحةِ إثباتِه، وليس بين الإِثباتِ والنفي فرق الْبَتَةَ في كونِهما مذهباً واعتقاداً يَصدُرانِ عن دَلالةٍ أوجبَتْهما، وحجةٍ ساقَتْ إليهما.
فأمَّا تعلُّقُهم وتمثيلُهم ما نحن فيه من نفيِ الحقائِق ذواتِ الدَّلائل الظاهرةِ بحكمِ اللهِ سبحانه في باب الشرع، فإنه فاسدٌ؛ وذلك أن من ادُّعِيَ عليه مالٌ فأنكرَه، لا يَزعُمُ أنَ العقول والدلائلَ الظاهرةَ تدُلُّ على فسادِ ادِّعائِه عليه، وإنما غايةُ ما يَدعي أنه عرَفَه بمعرفةٍ تخصُّه؛ إذ لم يَجِدْ نفسَه آخذةً لذلك المالِ المُدعى عليه، وذلك أمرٌ لا يَظهرُ لغيرِه في حالِ إنكارهِ، والمنكِرُ للحقائقِ القائمةِ دلائلُها الظاهرةِ حُجَجُها يزعمُ أن له دليلَاً على إنكارِه، وحجةً على تخطئة خصْمهِ إيَّاه فيما