للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقال خباب مرة وهو يحكي مأساته مع مجرمي مكة: (أوقدوا لي نارًا، فما أطفأها إلا ودك (١) ظهري) (٢).

كان خباب يقول ذلك لمن حوله يحمل شهادته ومعاناته على ظهره وذلك عندما تحدث الجميع عن مأساة أخيه بلال .. وتلك الخطوط التي رسمها في طرقات مكة بجسده العاري عندما كان سفلة قريش يسحبونه هنا وهناك .. ولم يستطيعوا أن يسحبوا كلمة إذعان واحدة ترضي طواغيت مكة .. كان بلال المنحدر من شلالات أفريقيا وأنهارها شجاعًا كأُسُودها .. سخيًا كسهولها .. ساق القدر أمه وأباه إلى مكة .. وولد كالليل مليئًا بالأسرار والحزن والعبودية .. هموم تملأ قلبه .. وقيود تحز رقبته وآدميته .. كانت حياة آسنة عكرة لا بشائر فيها .. حتى سمع برسول الله-صلى الله عليه وسلم- فوجده يحمل ما كان يبحث عنه .. الحرية والعدالة .. كم تشققت قدماه وهو يبحث عنها فلم يجد عند قريش والعالم إلا سراب .. ووجد الحقيقة والحلم عند محمَّد -صلى الله عليه وسلم- .. فماذا ينتظر .. لقد أدرك أسرار القوافل التي تمر بهذه الدنيا ثم ترتحل .. وأدرك أين تستقر .. أدرك أن هذه الدنيا ليست سوى أيام وساعات تتبخر .. ومهما طالت فلن تدوم وأن الحياة هناك: خلف السحاب خلف السماء في مدائن الجمال والسحر والبهجة الخالدة .. في جنات عدن .. أو بين أنهار الحميم والنتن والعذاب المقيم وله الخيار .. اختار بلال الرحمن .. ولفظ الشيطان من حياته وتصدى كجيش من حديد لتعذيب قريش .. (هانت عليه نفسه في الله وهان على قومه، فأعطوه الولدان، وأخذوا يطوفون به شعاب مكة وهو يقول: أحد .. أحد) (٣).


(١) الودك هو الشحم.
(٢) رواه أبو نعيم (الحلية ١/ ٤٤) عن الشعبي قال: سأل عمر بلالًا .. وظاهر هذا السند الإرسال. لكن يشهد له ما سبق.
(٣) مر معنا وإنه حديثٌ حسنٌ.

<<  <  ج: ص:  >  >>