الآخر، فمن حكمت له بغير حقه فإنما أقطع له قطعةً من النار - أو كما قال (- فخرجا فتراضيا بينهما أراد (أن يؤدب أمته بإشعار المقضي عليه أن ليس مغلوباً من غلبة الحق، وبإعلام المقضي له أن ليس غالباً من غلبه الباطل، وبذلك يقع التباذل، وفي التباذل التناصف، وفي التناصف التصادق، وهو المذهب المحبوب عند الله وأصفيائه - جعلنا الله من المرضيين عنده أقوالاً وأفعالاً، ومن المعفوّ لهم أقوالاً وأفعالاً.
وأعلم - حفظك الله - أن طالب الحق حيث يلاقي مذهبه، ومحب العدل إذا جمع عليه غرضه ليس يحب الحق لذاته، ولا يبغي التناصف على جهته، وإنما يريد موافقة المراد أين سلك، ويحب مواتاة النُّجح كيف سهل، ومورد الحق ومورد الباطل عنده سيان، بعد أن يتناوله آرابه، ويقضي أو طاره، فأبعد من هذا الشك ما استطعت، وأهرب بنفسك من هذا الشوب كيف أردت، وأعلم علماً يقيناً أن الأمر الذي يسرك، والأمر الذي يسؤك إذا كان منزعهما من العدل، ومصدرهما عن حكمة الحكم فكلاهما حق نقي وكلاهما عدل صحيح. وإنهما يسقيان بماء واحد، ويرجعان إلى أصل جامع، فلا تفرق بينهما بالهوى ولا تخرق إلتئامهما بطاعة الغضب، ولا تنسبهما لعلات وهما من الأعيان، ولا تحرمهما فضيلة التشابه وهما صنوان، فقد سمعت الله عز وجل حمد قوماً فقال: (ولم يفرقوا بين أحد من رسله) والحق من كلماته، والعدل من أسمائه، وهو لمفرقهما أشد أرصاحاً "؟ " ومن ممحقهما أبعد رضواناً، لأن الرسل حملة الحق، وبالحق عظموا وبالحق شرفوا، فموضع الإساءة من المسرب أغلظ من موضعها في المشرف، وداعي السخط في المعظِّم أقوى منه في المعظَّم، ولعلي أجمع بتكرير هذا الوعظ بين الأجر في تعريفك، وبين النفع في إذكاري - والتوفيق من الله.
سر - أيدك الله - فينا بسيرتنا، وأقضِ علينا بقضائنا: فأول راض سنةً من يسيرها.