الإسلامية، فقد كان الأمر مختلفًا في العصور الأولى، إذ غلب عليها مشروع الترجمة، ومن النادر ظهور حالات ذهاب إلى أمم أخرى لتحصيل العلوم إلا بشكل رحلات فردية. أما في العصر الحديث فقد برز مشروع الابتعاث، بما يعنيه ذلك من ذهاب عدد من الشباب في وقت حماسهم من جهة وضعفهم من جهة، ولاسيّما أنه إذا لم يتم الإعداد الجيد للشباب المبتعثين فسيكونون عرضة للافتتان بالحياة الفكرية والاجتماعية وبعموم الحضارة الغربية، فكيف إذا واجه هؤلاء الشباب مؤسسات وقوى غربية تحاول استثمارهم لمشروعات تغريبية أو مشروعات فكرية علمانية. وقد نجح الغرب في جعل الابتعاث عملية مستمرة؛ فهو يكسب منها ماديًا ويكسب منها معنويًا، ومن الواضح أن العالم الإسلامي لم ينجح في الاستقلال المعرفي بعد كل هذه السنين من الابتعاث. وما يهم هنا أن الابتعاث المستمر قد أصبح منفذًا خطيرًا للتغريب الفكري والاجتماعي، وقد كان أغلب رموز التغريب الفكري من المبتعثين، فقد تحولوا من نفع الأمة إلى تغريبها.
ثالثًا: البيئة العلمية والثقافية الجديدة:
لقد ارتبطت هذه البيئة بمشروع التحديث الأعرج، الذي قام على جانب العلم الدنيوي والثقافة البشرية وأهمل جانب العلم الشرعي، إذ نمت مؤسسات علمية وثقافية جديدة لا تهتم من جهة بالعلوم الإسلامية وهي مختَرَقة من جهة بمشكلات العلمنة والتغريب، ومن ذلك المدارس العصرية التي تمكن منها غير المسلمين في بداية مشروع التحديث، وما لحقها من مؤسسات علمية أعلى، ولاسيّما أنه في فترة من الزمن كان تحصيل العلم الدنيوي إما بالابتعاث أو من خلال كليات تبناها الغرب مثل "الجامعة الأمريكية اليسوعية" التي أسسها المنصّرون في بلاد الشام أو كلية "فكتوريا" التي أسسها "كرومر" في مصر لإخراج جيل متغرب، وقد تخرج في هاتين الكليتين وشبيهاتها زعماء التغريب وقادة التيارات الفكرية المتغربة. كما أن هناك حقلًا ثقافيًا وأدبيًا تكوَّن وكوَّن من الجيل المتغرب في مؤسسات ثقافية و"صالونات" وتجمعات وأندية وغيرها، وكانت مجال إشهار واسع للتغريب، وخاصة بعد تسلط هؤلاء على مؤسسات الآداب والفنون المختلفة واستغلالهم لها في نشر التغريب، وقد كانت أداة مهمة في ذلك بسبب حبّ الناس للمتع الفنية والأدبية، ومن ثمّ تسرُّب الأمراض من خلالها إلى المتلقين دون أن يشعروا بها.