للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عدل البيان القرآني فما عما هو مألوف ومتبادر من تقديم الأولى على الآخرة.

وليس القصد إلى رعاية الفاصلة، هو وحده الذي اقتضى تقديم الآخرة هنا على الأولى. وإنما اقتضاه المعنى أولاً، في سياق البشري والوعيد، إذ الآخرة خير وأبقى، وعذابها أكبر وأشد وأخزى. . .

وبهذا الملحظ البياني قُدمت الآخرة على الأولى في سياق البشري للمصطفى، عليه الصلاة والسلام، بآية الضحى:

{وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}

كما قُدمت الآخرة على الأولى في سياق الوعيد لفرعون، بآية النازعات:

{فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى}

. . . . . . . . . . . .

* * *

مقتضى الإعجاز أنه ما من فاصلة قرآنية لا يقتضى لفظها في سياقه، دلالة معنوية لا يؤديها لفظ سواه، قد نتدبره فنهتدي إلى سرَّه البياني. وقد يغيب نا فنْقرُّ بالقصور عن إدراكه.

ولا يُظَن بي أنني أُهوَّن من قيمة التآلف اللفظي والإيقاع الصوتي لهذا النسق الباهر الذي يجتلي فيه فنيَّة البلاغة، تؤذي المعنى بأرهف لفظ وأروع تعبير وأجمل إيقاع.

فالبلاغة من حيث هي فن القول، لا تفصل بين جوهر المعنى وبين أسلوب أدائه، ولا تعتد بمعان جليلة تقصر الألفاظ عن التعبير البليغ عنها، كما لا تعتد بألفاظ حميلة تضيع المعنى أو تجور عليه ليسلم لها زخرف بديعي.

وهذا هو الحد الفاصل بين فنية البلاغة كما تجلوها الفواصل القرآنية بدلالتها المعنوية المرهفة ونسقها الفريد في إيقاعها الباهر، وبين ما تقدمه الصنعة البديعية من زخرف لفظي يُكرِه الكلماتِ على أن تجئ في غير مواضعها.

<<  <   >  >>