وثالثها: أن الذي ذمّه النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله:"بئسما لأحدهم" ونهى عنه هو إضافة نسيان الآية من القرآن إلى نفسه، وليس يلزم من النهي عن إضافة النسيان للآية إلى نفسه النهي عن إضافته إلى كلّ شيء، فإن الآية من كلام الله المعظم، ويقبُحُ بالمرء أن يضيف نسيان كلام الله تعالى إلى نفسه، ولا يلزم من ذلك تعديه إلى غير كلام الله، لأنه لا يلزم من النهي عن الخاصّ النهي عن العامّ مع قيام الفرق بينهما، لأن إضافة نسيان الآية إلى نفسه يُشعر بتهاونه في استذكاره وبحفظه، ولذلك أتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله:"بئسما لأحدهم أن يقول: نسيتُ آية كيتَ وكَيتَ، بل هو نُسي" بقوله: "استذكروا القرآن، فو الذي نفسي بيده، لهو أشدُّ تفلُّتًا من صدور الرجال من النَّعَم من عُقُلها".
فلا يلتحق غير القرآن به في كراهة إضافة النسيان إليه.
وسادسها: وهو الأصح الذي اختاره المحققون: أن نفيه - صلى الله عليه وسلم - إنما كان بناءً على ما في اعتقاده وظنه، وهو أنه لم يفعل شيئًا من ذلك، فأخبر بحقّ، إذ خبره موافق لما في نفسه - صلى الله عليه وسلم -، وكأنّ النطق مقدّر بذلك، وإن كان محذوفًا، لأنه لو صرّح به، وقال: لم تقصر الصلاة، وليس في ظني أني نسيتُ، ثمّ تبين أنه كان في خلافه في نفس الأمر كان إخباره صدقًا، ولم يقتض ذلك أن يكون خلافه في ظنه، فكذلك إذا كان مقدّرًا مُرادًا ليس فيه خُلف ولا كذبٌ.
وهذا أولى الأوجه بالصواب، وأحسنها، وهو خارج على مذهب من يقول: إن مدلول اللفظ الخَبَريّ هو الأمور الذهنية، فإنه وإن لم يُذكر في اللفظ، فهو الثابت في نفس الأمر.
ولهذا ذهب أكثر العلماء إلى عدم تحنيث الجاهل، ومن جملة صوره أن يحلف على شيء يعتقده، فيظهر أنه بخلاف ما حلف عليه، فتلك اليمين لا غية لا حنث فيها، لأنه لم يقصد انتهاك الاسم المعظم بالمخالفة مع القسم به، وهي التي لم يُضفها الله إلى كسب القلب، حيث قال:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} الآية [البقرة: ٢٢٥](١).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: إنما أطلت الكلام في هذا الحديث، لكثرة فوائده، وغزارة عوائده، ولقد أحسن من قال، وأجاد فى المقال:[من البسيط]