- حفظ الشافعي القرآن وهو ابن سبع سنين، وجوده على مقرئ مكة الكبير إسماعيل بن قسطنطين، وأخذ تفسيره من علماء مكة الذين ورثوه عن ترجمان القرآن ومفسره عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. ثم اتجه بعد حفظه القرآن لاستحفاظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أولع منذ حداثة سنه بالعربية، فرحل إلى البادية يطلب النحو الأدب والشعر واللغة، ولازم هُذيلا عشر سنوات يتعلم كلامها وفنون أدبها وكانت أفصح العرب فبرز ونبغ في اللغة العربية وهو غلام. قال الأصمعي - ومكانته في اللغة مكانته -: "صححت أشعار هذيل على فتى من قريش يقال له محمد بن إدريس" وفي مكة كان يتردد على المسجد يسمع من العلماء بشغف شديد. وكان في ضيق العيش بحيث لا يجد ثمن الورق الذي يدون عليه، فكان يعمد إلى التقاط العظام والخزف والدفوف ونحوها ليكتب عليها، وكان يقول: "ما أفلح في العلم إلى من طلبه في القلة، ولقد كنت أطلب ثمن القراطيس فتعسر علي".
ولم يكن قد تجاوز الخامسة عشرة من العمر حين صار أستاذه مسلم بن خالد الزنجي - إمام أهل مكة ومفتيها - يقول له: "أفت يا أبا عبد الله، فقد والله آن لك أن تفتي" وهكذا اجتمع له في مكة النبوغ في اللغة والفقه والتفسير. ولكن همته في طلب العلم لم تقف به عند هذا الحد، فقد جاهد في سبيله فكان كثير الترحال. وكان العلماء والفقهاء في ذلك العصر يشدون الرحال إلى المدينة ليروا عالمها المشهور مالك بن أنس رضي الله عنه، وكان مالك صاحب مجلس في الحرم النبوي، لم يطرق الخلفاء بابه، ويحسبون حسابه وطرقت أخبار الإمام مالك أسماع عالمنا الشافعي فاشتاق لرؤيته، وتلهف لسماع علمه، فحفظ كتابه الموطأ ورحل إلى يثرب، وهناك لم يستطع أن يظفر بالوصول إلى باب مالك إلا بعد لأي وجهد، ونظر إليه مالك، وكانت له فراسة، فقال له: "يا محمد اتق الله واجتنب المعاصي فسيكون لك شأن من الشأن"، وفي رواية: "إن الله عز وجل ألقى على قلبك نورا فلا تطفئه بالمعاصي" ثم قال له: "إذا ما جاء الغد تجيء ويجيء من يقرأ لك" قال الشافعي: "فقلت أنا قارئ فقرأت عليه الموطأ حفظا، والكتاب في يدي، فكلما تهيبت مالكا وأردت أن أقطع، أعجبه حسن قراءتي وإعرابي، فيقول: يا فتى زد. حتى قرأته عليه في أيام يسيرة. وقال: إن يك أحد يفلح فهذا الغلام" وبعد أن قرأ على مالك موطأه، لزمه يتفقه عليه ويدارسه المسائل التي يفتي بها الإمام الجليل وتوطدت الصلة بينه وبين شيخه، فكان مالك يقول: "ما أتاني قرشي أفهم من هذا الفتى". وكان الشافعي يقول: "إذا ذكر العلماء فمالك النجم، وما أحد أمن علي من مالك". ولكن يبدو أم ملازمته لمالك رضي الله عنه لم تكن بمانعة له من السفر والاختبارت الشخصية، فكان يقوم بين وقت وآخر برحلات في البلاد الإسلامية، كما كان يذهب إلى مكة يزور أمه ويستنصح بنصائحها.
وبعد مضي عشر سنوات على إقامته في المدينة توفي الإمام مالك. وأحس الشافعي أنه نال من العلم أشطرا، فاتجهت نفسه إلى عمل من أعمال الدولة يتكسب به، بعد أن رهن داره، وعجزت أمه عن معونته، فتولى عملا بنجران من اليمن، وهناك طفق يتردد على حلقات العلم، ويأخذ عن كبار العلماء فيها، إلى أن وقع بينه وبين والي اليمن أثناء عمله شيء (بسبب ما أخذه عليه من الظلم) فوشى به الوالي إلى الخليفة هارون الرشيد، الذي أمر بإحضاره إلى بغداد، (وفي محنته تفصيل سيأتي) ولعل هذه المحنة التي نزلت به قد ساقها الله تعالى إليه ليصرف اهتمامه عن الولاية ونحوها، ويعود للاتجاه بكليته نحو العلم وخرج الشافعي رضي الله عنه من التهمة التي نسبت إليه ليطبق علمه وشهرته الآفاق، فقد أصبح محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة الذي آلت إليه رياسة الفقه في العراق أستاذاً للشافعي، تلقى عنه فقه أهل الرأي، ولما كان قد أخذ فقه أهل الحديث عن مالك الذي آلت إليه رياسة الفقه في المدينة فقد خرج من هذين المذهبين بمذهب يجمع بينهما، وهو مذهبه القديم المسمى بكتاب الحجة (رواه عنه العديد من العلماء، وكان الزعفراني أتقنهم له رواية وأحسنهم له ضبطاً) ثم قفل عائدا إلى مكة وفي جعبته علوم أهل الأرض في ذلك العصر بعد أن مضى عامان على إقامته في بغداد، وأخذ يلقي دروسه في الحرم المكي، والتقى به أكبر العلماء في موسم الحج، فكانوا يرون فيه عالما هو نسيج وحده، وفي هذه الأثناء التقى به أحمد بن حنبل، قال اسحق بن راهويه: "لقيني أحمد بن حنبل بمكة فقال: تعال أريك رجلا لم تر عيناك مثله، فأراني الشافعي. قال: فتناظرنا في الحديث فلم أر أفقه منه، ثم تناظرنا في القرآن فلم أر اقرأ منه، ثم تناظرنا في اللغة وما رأت عيناي مثل قط" ومكث في مكة تسع سنوات كاملة - وهو الذي عهدناه صاحب سفر وترحال - ليصفوا له الجو لاستخراج قواعد الاستنباط بعيدا عن ضوضاء العراق وتناحر الآراء فيها، وألف كتاب الرسالة في علم أصول الفقه.
ثم ارتحل ثانية إلى بغداد، وقد سبقته شهرته إليها، وتحدث بذكره المحدثون والفقهاء، ولقب فيها بناصر الحديث، وأخذ ينشر آراءه الفقهية الأصولية ويجادل على أساسها. وعقد في الجامع الغربي في بغداد حلقات العلم والفقه، وأمه المتعلمون والعلماء، منهم الممتحن، ومنهم المستمع، ومنهم المتعد بمذهبه الساخر بهذا المتفقه الجديد على زعمه، فما يكادون يجلسون إليه ويستمعون له حتى يرجعوا عن قولهم ويتركوا ما كانوا فيه، ويتبعوه، وما زال الشافعي يصول ويجول، ويأتي كل يوم بجديد من فهم كلام الله، وفقه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى حمل العلماء على الإقرار بعلمه وظهر أمره بين الناس، وانفكت حلقات المخالفين، حتى إن أحدهم قال: "قدم الشافعي بغداد وفي الجامع الغربي عشرون حلقة لأصحاب الرأي، فلما كان يوم الجمعة لم يثبت منها إلا ثلاث حلق أو أربع" وفي هذه القدمة، التي دامت عامين، أعلن رضي الله عنه كتبه وقد أنضجها الدراسة والمراجعة، ونشرها بين صحابته.
وتكررت رحلات الشافعي بين مكة وبغداد، وكانت خاتمة رحلاته إلى مصر التي كان الدافع إليها ميله للابتعاد عن مركز الخلافة والسياسة، وذلك بناء على دعوة والي مصر له وانتهى به المطاف هناك، وأملى مذهبه الجديد في كتابه " المبسوط" الذي اشتهر فيما بعد باسم كتاب الأمر وأعاد النظر في آرائه وكتبه ومؤلفاته، فجدد بعضها، ونسخ بكتابه المصري كتابه البغدادي، (المذهب الجديد هو المعتمد، وعليه العمل، إلا أن هناك مسائل معينة قد اختارها فقهاء المذهب من القديم، ورجحوا الإفتاء بها، وتركوا الجديد فيها، ولقد أحصاها بعضهم بأربع عشرة مسالة، وبعضهم باثنتين وعشرين مسالة، وهي منثورة في كتب المذهب) وقال رضي الله عنه: "لا أجعل في حل من روى عني كتابي البغدادي"
وكان الناس في مصر على مذهب الإمام مالك فقدموا الشافعي واستمعوا إليه وافتتنوا به. وقصده كثيرون من الشام واليمن والعراق وسائر الأقطار للتفقه عليه.
وهكذا توالت الشهادات بمكانة الشافعي من العلم في عصره، وأجمع شيوخه وقرناؤه وتلاميذه على أنه كان علما بين العلماء لا يجارى، ولئن تجاوزنا هذه الشهادات لنجدن شهادة أقوم دليلا هي ما تركه من آثار من أقوال مأثورة أو فتاوى منثورة، أو رسائل كتبها، أو كتب أملاها، (الكتب التي تركها الشافعي قسمان:
-١) قسم يذكره المؤرخون منسوباً للشافعي، مثل كتاب الأم والمرجح أنه دونه بنفسه، وكتاب الرسالة
-٢) قسم يذكرونه منسوباً إلى أصحابه على أنه تلخيص لكتبه، مثل مختصر البويطي ومختصر المزني وللشافعي رضي الله عنه في القسم الأول المعنى والصياغة، وله في الثاني المعنى فقط. وقد ذكر الرواة طريقة تأليفه للكتاب، فبعضه يكتبه بنفسه، وبعضه كان يمليه، وينسخ عنه تلاميذه ما يكتب ويقرؤونه عليه) ففي كل ذلك دليل على مقدار علمه ومواهبه، فقد كان أكبر من أديب وأكثر من فقيه.
وكان مجلسه للعلم جامعا للنظر في عدد من العلوم، قال الربيع بن سليمان: "كان الشافعي رحمه الله يجلس في حلقته إذا صلى الصبح فيجيئه أهل القرآن، فإذا طلعت الشمس قاموا، وجاء أهل الحديث فيسألونه تفسيره ومعانيه، فإذا ارتفعت الشمس قاموا، فاستوت الحلقة للمذاكرة والنظر فإذا ارتفع الضحى تفرقوا، وجاء أهل العربية والعروض والنحو والشعر، فلا يزالون إلى قرب انتصاف النهار"
لقد بوركت نبوءة نصلى الله عليه وسلم في الشافعي حين قال: (اللهم اهد قريشا فإن عالمها يملأ طباق الأرض علما) (الجامع الصغير ج ١ /صلى الله عليه وسلم ٥٦ عن أبي هريرة رضي الله عنه، حديث حسن للخطيب وابن عساكر في التاريخ)