- كان رضي الله عنه كثير الأوجاع والأسقام، وكان يشكو البواسير خاصة، ولقد بلغت منه في أواخر أيامه مبلغا عظيما، فكان ربما ركب فسال الدم من عقبيه، وكان لا يرح الطست تحته وفيه لبدة محشوة، يقطر فيه دمه. وما لقي أحد من السقم مثل ما لقي، ولكن هذا لم يكن ليصرفه عن الدروس والأبحاث والمطالعات وليس هذا غريبا على مثله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال عندما سئل عن أشد الناس بلاء:(الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل)(الترمذي ج ٤ / كتاب الزهد باب ٥٦ م ٢٣٩٨) ولما كان في مرضه الأخير دخل عليه تلميذه المزني فقال له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت من الدنيا راحلا وللإخوان مفارقا، ولكأس المنية شاربا، وعلى الله عز وجل وارداً، ولا والله ما أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنئها، أم إلى النار فأعزيها، ثم بكى وأنشأ يقول:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي * جعلت رجائي نحو عفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته * بعفوك ربي كان عفوك أعظما
فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل * تجود وتعفو منة وتكرما
وفي آخر ليلة من رجب سنة أربع ومائتين للهجرة انتقلت روحه الطاهرة إلى ربها، عن أربع وخمسين سنة.
وفي عصر اليوم التالي خرجت مئات الألوف تنقل الشافعي إلى مثواه الأخير في القرافة بمصر وذهل الناس بوفاة لشافعي، وخيمت الكآبة على وجوه العلماء، وهيضت أجنحة تلاميذه وطويت صفحة مشرقة من صفحات تاريخنا الرائع، وغاب نجم من النجوم التي سطعت في سماء البشرية، فأضاءت المشرق والمغرب.
رحم الله الشافعي، ورضي عنه، وأكرم مثواه. فقد كان كما قال عنه أحمد بن حنبل رضي الله عنه: كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للبدن، فانظر هل لهذين من خلف، أو عنهما من عوض"