للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

- أولا - أن تقع الصلاة كلها مع الخطبة في وقت الظهر، لحديث أنس رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى الجمعة حين تميل الشمس" (١) . وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: "كنا نجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتبع الفيء" (٢) . فلو خطب قبل دخول الوقت لم تصح، لأن الجمعة ردت إلى ركعتين بالخطبة، فإذا لم تجز الصلاة قبل الوقت لم تجز الخطبة.

وإذا ضاق وقت الصلاة، ورأى الإمام أنه إن خطب خطبتين خفيفتين، وصلى ركعتين لم يذهب الوقت لزمتهم الجمعة، وإن رأى أنه لا يمكنهم ذلك صلى الظهر.

ولو شكوا في خروج وقتها، فإن كانوا لم يدخلوا فيها لم يجز الدخول فيها، لأن شرطها الوقت ولم يتحققه، فلا يجوز الدخول مع الشك في الشرط.

وإن دخلوا فيها في وقتها ثم شكوا قبل السلام في خروج الوقت أتموها جمعة لأن الأصل بقاء الوقت وصحة الفرض ولا تبطل بالشك، وكذا إذا صلوا ثم شكوا بعد فراغها هل خرج وقتها فبل الفراغ منها فإنهم تجزئهم الجمعة لأن الأصل بقاء الوقت.

أما إذا شرعوا فيها في وقتها، ثم خرج الوقت قبل التسليمة الأولى فتفوت الجمعة وعليهم إتمامها ظهرا، ويسرون فيها من حينئذ، وتجزيهم، ولا يحتاج إلى نية الشر لأنهما صلاتا وقت واحد فجاز بناء أطولهما على أقصرهما، كالمسافر إذا نوى القصر ثم لزمه الإتمام بإقامة أو غيرها. ولو مد الإمام الركعة الأولى حتى تحقق أنه لم يبق ما يسع الثانية أتمها ظهراً بلا تجديد نية، وانقلب ما صلى ظهراً من حين تحققه ولو لم يخرج الوقت بعد.

ولا تقضى جمعة على صورتها بعد فوات وقت الظهر، ولو في يوم جمعة أخرى، ولكن من فاتته لزمته الظهر.

ثانيا - أن تقام في أبنية مجتمعة يستوطنها من تنعقد بهم الجمعة، من خطة بلد أو قرية مبنية ولو بالخشب أو القصب، ولو لم تكن في المسجد، كأن تكون في فناء معدود من خطة البلد. فإذا صليت خارج البلد لم تصح بلا خلاف لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ولم يصل هكذا. وإذا انهدمت البلد أو القرية وأقاموا لعمارتها، ولو في غير مظال وسقائف صحت جمعتهم فيها لأنها وطنهم، بخلاف ما لو نزلوا مكانا ليعمروه قرية فإن جمعتهم لا تصح فيه قبل البناء.

ولا تصح الجمعة في خيام الأعراب، وبيوتهم، وتجب عليهم الجمعة إن سموا النداء من محلها وإلا فلا، لأن الأعراب كانوا مقيمين حول المدينة المنورة ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بها لكونهم لا يسمعون النداء.

وشرط البلد أو القرية أن يسكنها الأربعون الذين تجب عليهم الجمعة، بحيث لا يظعنون عنها صيفا ولا شتاء إلا لحاجة.

ثالثا - ألا يسبقها أو يقارنها في تحرمها جمعة أخرى في محلها، أي في نفس البلد أو القرية لأن الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين لم يقيموا سوى جمعة واحدة، والاقتصار على واحدة أظهر لشعار الاجتماع واتفاق الكلمة، إلا إذا عسر اجتماعهم بأن كبرت البلدة التي تقام فيها الجمعة وليس فيها مكان واحد يستوعب جماعتها بلا مشقة، مسجدا كان المكان أو غيره، فحينئذ يجوز تعددها بحسب الحاجة، أما إذا تعددت لغير حاجة، وعلمت السابقة منها فهي الصحيحة وما بعدها باطل يجب على أهلها أداء فريضة الظهر في الوقت، وأما إذا تقارنت في جميع الأمكنة فجميعها باطلة. والعبرة في السبق والمقارنة بالراء من تكبيرة إحرام الإمام. وإن علم السبق ولم يعرف السابق، أو علم السابق ثم نسى فتجب صلاة الظهر على الجميع لالتباس الصحيحة بالفاسدة. وإن علمت المقارنة، أو لم يعلم هل حصل سبق أو مقارنة أعيدت الجمعة مجتمعين إن اتسع الوقت لعدم وقوع جمعة مجزئة، ويفضل، احتياطا، وخروجا من مخالفة من منع التعدد ولو لحاجة، نقول، يفضل لمن صلى ببلد تعددت الجمعة فيه لحاجة أن بعيدها ظهرا (٣) . ويصلى الظهر بعد الجمعة غير المجزئة جماعة.

رابعا - الجماعة: فلا تصح فرادى، ويشترط أن يكون العدد في جماعة الجمعة أربعين عند الإحرام بما فيهم الإمام، كلهم لا ممن تنعقد بهم الجمعة (٤) .

ويشترط بقاء العدد كاملا من أول الخطبة إلى انقضاء الصلاة، فإن انفضوا في أثناء الخطبة لم يعتد بالركن المفعول في غيبتهم بلا خلاف، فإن عادوا قريبا عرفا وجبت إعادة الركن الذي لم يحضروه دون الاستئناف، وإن عادوا بعد فصل طويل عرفا (٥) وجب الاستئناف لانتفاء الموالاة. ولو نقصوا في الصلاة بطلت لاشتراط اكتمال العدد فيها أربعين. وإن زاد العدد على الأربعين صح أن يكون الإمام فيها عبدا أو مسافرا أو صبيا مميزا.

خامسا - خطبتان قبل الصلاة، يجلس بينهما، لما روى جابر بن سمرة رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائما ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائما) (٦) . ولأن الخطبة إنما قصرت لأجل الخطبة فإذا لم يخطب رجع إلى الأصل.

- شروطهما:

-١- اكتمال العدد الذي تنعقد به الجمعة.

-٢- كونهما في وقت الظهر، قبل الصلاة، فلو خطب الخطبتين أو بعضهما قبل الزوال ثم صلى بعدهما لم يصح، ولو صلى قبل الخطبتين لم يصح لأنهما شرط لصحة الصلاة، ومن شأن الشرط أن يقدم.

-٣- طهارة الخطيب من الحدثين. فلو خطب جنبا لم يصح لأن القراءة في الخطبة واجبة، ولا تحسب قراءة الجنب. ولو لم يعلم حاضرو الجمعة جنابته ثم علموا بعد فراغها أجزأتهم. وإن أحدث أثناء الخطبة وجب الاستئناف، ولا يجوز البناء بنفسه، ولو تطهر عن قرب، لأنها عبادة واحدة فلا تصح أن تؤدى بطهارتين، فإن أناب حين أحدث فللنائب أن يبنى على ما فعله الأول، أما لو أحدث بين الخطبتين والصلاة وتطهر عن قرب صح ذلك ولا يضر.

-٤- الطهارة من الخبث في الثوب والبدن والمكان، وكذا ما يحمله الإمام من سيف أو عكاز، والمنبر كذلك. فإن كانت النجاسة تحت قدميه أو يديه ضر مطلقا، ولو بان الإمام ذا نجاسة خفية بعد الخطبة لم يضر.

-٥- كون الخطيب مستور العورة لأن الخطبتين بمنزلة ركعتين.

-٦- القيام مع القدرة لحديث جابر بن سمرة رضي الله عنه المتقدم، فإن عجز استحب له أن يستخلف، فإن خطب قاعدا للعجز، أو مضطجعا إن عجز عن الجلوس، أو مستلقيا إن عجز عن الاضطجاع جاز بلا خلاف، كالصلاة، فإن بان أنه كان قادرا على القيام صحت صلاتهم إن تم العدد دونه، وإن نقص لم تصح، ولا تصح صلاته هو على التقديرين.

-٧- إسماع العدد الذي تنعقد به الجمعة (٧) لقول جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في وصف خطبته صلى الله عليه وسلم: "وقد علا صوته ... " (٨) ، فلا يجزئ الإسرار، ولا حضورهم بلا سماع لصمم أو بعد أو نوم.

-٨- كونهما بالعربية، ومحل اشتراط العربية أن يكون في القوم عربي، وإلا أجزأت بالعجمية إلا الآية فلا بد فيها من العربية. ويجب أن يتعلم واحد من القوم العربية، فإن لم يتعلم واحد منهم أثموا جميعهم، ولا تصح جمعتهم مع القدرة على التعلم.

-٩- الموالاة بين كلمات كل من الخطبتين، وبين الخطبتين، وبين الخطبة الثانية والصلاة. فلو فرق ولو لعذر كنوم أو إغماء بطلت.

-١٠- الجلوس بينهما جلوسا خفيفا بقدر الطمأنينة، لحديث جابر بن سمرة رضي الله عنه المتقدم، ويستحب أن يجعل بقدر سورة الإخلاص، وأن يقرأها فيه، فإن خطب قاعدا للعجز وجب أن يفصل بينهما بسكتة، ولا يجوز أن يضطجع.

- فروضهما:

- ١ - حمد الله تعالى ولو ضمن آية، كأن يقول: {الحمد لله الذي خلق السموات والأرض} إذا قصد الذكر، أما إن قصد قراءة الآية، أو الآية والذكر، أو أطلق، أجزأت عن الآية ولم تجزئ عن حمد الله تعالى، قال جابر بن عبد الله رضى الله عنهما: "كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يحمد الله ويثنى عليه ثم يقول على إثر ذلك وقد علا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش، يقول صبحكم ومساكم، ويقول: (بعثت أنا والساعة كهاتين) ، ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى ويقول: (أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة) ، ثم يقول: (أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالا فلأهله، ومن ترك دَيْناً أو ضياعأ فإلَىَّ وعَلَىَّ) " (٩) .

-٢- الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وتندب الصلاة على الآل والصحب. ويجب الترتيب بأن تكون الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد حمد الله.

-٣- الوصية بالتقوى، لحديث جابر رضي الله عنه، ولأنها المقصود الأعظم من الخطبة، ولا يتعين لفظ الوصية بل يجزئ قول الإمام: أطيعوا الله، أو اتقوا الله. ولا يكفي الاقتصار فيها على التحذير من غرور الدنيا وزخارفها لأن ذلك قد يتواصى به منكرو الشرائع، بل لا بد من الحث على الطاعة والتحذير من المعصية.

-٤- قراءة آية مفهمة (١٠) في إحداهما، والأفضل أن تكون في الأولى لتقابل الدعاء في الثانية فيكون في كل خطبة أربع فرائض، ويسن أن يقرأ سورة ق لما روي عن أم هشام بنت حارثة ابن النعمان رضي الله عنها قالت: " ... وما أخذت ق والقران المجيد إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس" (١١) .

فإن لم يحسن شيئا من القران أتى ببدل الآية ذكرا أو دعاء، فإن عجز وقف بقدرها.

-٥- الدعاء للمؤمنين والمؤمنات في الثانية، فلو أتى به في الأولى لم يعتد به، وإذا خص الحاضرين فقط صح ذلك، لكن الأكمل أن يشمل في دعائه كل المؤمنين والمؤمنات. ولا يسن الدعاء للسلطان بعينه، بل إن ذلك مكروه عند الشافعي، ولا يجوز وصف السلطان بما ليس فيه، ويسن الدعاء لأئمة المسلمين وولاة الأمور بالصلاح والإعانة على الحق والقيام بالعدل.

- سنن الخطبتين:

- أن تكونا على منبر للأحاديث الصحيحة الكثيرة فيه، من ذلك ما قال أنس رضي الله عنه: "خطب النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر" (١٢) . والسنة أن يكون المنبر ذا ثلاث درجات، فإن لم يكن فعلى مرتفع. وأن يسلم عند دخوله المسجد، وأن يقبل عليهم إذا صعد المنبر وانتهى إلى الدرجة التي تسمى بالمستراح، ثم يسلم عليهم ثانية لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دنا من منبره يوم الجمعة سلم على من عنده من الجلوس، فإذا صعد المنبر استقبل الناس بوجهه ثم سلم" (١٣) . ثم يجلس يستريح فيؤذن واحد منهم لحديث السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: "كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما" (١٤) .

ويسن أن تكون الخطبة فصيحة جزلة، قريبة من الفهم، متوسطة لا طويلة مملة ولا قصيرة مخلة لحديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: "كنت أصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات فكانت صلاته قصداً وخطبته قصداً" (١٥) .

ويسن للخطيب أن يعتمد على نحو عصا بيسراه، وعلى المنبر بيمناه، ويكره التفاته في الخطبة، وأن يرفع يديه يشير بهما إلا إذا كانت له عادة، أو من أجل بث الحماسة في النفوس، لحديث عمارة بن رُؤيبة رضي الله عنه قال: "رأى بشر بن مروان على المنبر رافعا يديه فقال: قبح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بإصبعه المسَبِّحة" (١٦) . كما يسن له أن يبادر بالنزول عقب الانتهاء، ويكره دق درج المنبر.

ويسن أن يقرأ في الصلاة سورة الجمعة في الركعة الأولى وسورة المنافقون في الركعة الثانية، أو سورة الأعلى في الأولى والغاشية في الثانية، وتكون القراءة جهرا.


(١) البخاري ج ا/كتاب الجمعة باب ١٤/٨٦٢.
(٢) مسلم ج ٢/كتاب الجمعة باب ٩/٣١.
(٣) في بلدنا تتعدد الجمعة أكثر من الحاجة، لذا يجب على الجميع إعادة الظهر بعدها، وتقدر الحاجة بامتلاء المساجد كلها مع صحنها غير المسقوف، ولو شتاء.
(٤) أي أن يكونوا كلهم رجالا، بالغين، عقلاء، أحرار، مستوطنين في بلد إقامة الجمعة.
(٥) وضابطه مضي وقت يسع ركعتين خفيفتين.
(٦) مسلم ج ٢/كتاب الجمعة باب ١٠/٣٥.
(٧) ولا عبرة لسماع من لا تنعقد بهم الجمعة.
(٨) سيأتي الحديث كاملا في فروض الخطبتين.
(٩) مسلم ج ٢/كتاب الجمعة باب ١٣/٤٤.
(١٠) ذات معنى مقصود كالوعد والوعيد والوعظ، ولا يكفي بعض آية وإن طال.
(١١) مسلم ج ٢/كتاب الجمعة باب ١٣/٥٢.
(١٢) البخاري ج ١/كتاب الجمعة باب ٢٤.
(١٣) البيهقي ج ٣/ص ٢٠٥.
(١٤) البخاري ج ١/كتاب الجمعة باب ١٩/٨٧٠.
(١٥) مسلم ج ٢/كتاب الجمعة باب ١٣/٤٢، والقصد من الأمر هو الوسط بين الطرفين.
(١٦) مسلم ج ٢/كتاب الجمعة باب ١٣/٥٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>