للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لقد قدر الله لذلك الإمام الجليل أن يمتحن أبلغ المحنة، وأن يكوى جلده بالسياط، وأن يساق مقيداً مغلولاً يثقله الحديد. لا لشيء إلا إنه رفض أن يخوض في أمر مما كان يخوض فيه المأمون والذين أرضاهم صفوة له من العلماء.

جاء في كتاب المقفى للمقريزي أنَّ الإمام الشافعي رضَي الله عنه وهو في مصر، رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فأخبره (أنَّ المحنة ستكون، وأن الإمام أحمد بن حنبل سيمتحن) قال الربيع بن سليمان فكتب الشافعي كتاباً وختمه، ثم قال لي: يا أبا سليمان انحدر بكتابي هذا إلى الإمام أحمد وأعطه له ولا تقرأ، فحملت الكتاب إلى العراق ووجدت الإمام أحمد يصلي سنة الفجر فلما انتهى من الصلاة قدمت له الكتاب فعرفني وقرأه. فلمَّا جاء عند موضع فيه. بكى، قلت له: ما يبكيك يا أبا عبد الله؟ قال لي: الشافعي يذكر لي أنَّ الرسول الله صلى الله عليه وسلم بشره أن سأمتحن!! وأنا أسأل الله سبحانه وتعالى أن يحقق ذلك قريباً.

قال الربيع: فقلت للإمام: هذه بشرى فأين جائزتي؟ فخلع الإمام أحمد ثوبه الذي يلي جلده وأعطاه لي. فلمَّا رجعت إلى مصر رويت ما حدث للإمام الشافعي فوجدت الشافعي يتمنى لو ظفر بثوب الإمام أحمد.

كانت هذه الرؤيا قبل أن تقع المحنة بسنوات، ولقد فعلت في نفس الإمام أحمد فعل السحر كما فعلت الرؤيا أخرى رآها هو بنفسه وحكاها لنا ابن عمه نبل بن إسحاق بن حنبل فقال:

"رأيت في المنام صديقاً اسمه علي بن عاصم" واستبشر الإمام بهذه الرؤيا الثانية استبشاراً كبيراً وقال: إنَّ عليا تفيد علو المنزلة، وعاصماً تفيد العصمة في الفتنة.

ولذلك هش الإمام أحمد وبش لهاتين الرؤيتين العظيمتين واستعد نفسياً وعقلياً للنزال والنضال. ⦗٢٤⦘ بدأت المحنة سنة ٢١٨-هـ بورود كتاب المأمون، على عامله في بغداد، أن يجمع العلماء من قضاء وخطباء، ويسألهم عن القرآن، فمن لم يقل أنه مخلوق عزله، العلماء وامتثل الوالي أمر الخليفة فجمع العلماء، فأقروا جميعاً إلا أربعة منهم، فلجأ إلى الشدة، وأمر بوضعهم في الحبس وإثقالهم بقيود الحديد، فوافق اثنان، وبقي أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح، فأمر المأمون بحملهما إليه، فشدهما الوالي في الحديد ووجههما إليه. وتوفي المأمون قبل أن يصلوا إليه، وهو بالرقة، كما توفي ابن نوح على الطريق فبقي أحمد رضي الله عنه وحده، وهكذا اختصرت فيه جبهة المحدثين الضخمة، وانصبت الأضواء كلها عليه، اتجهت الأنظار إليه، وتعلق نصر الجبهة بثباته، فإن هو انهزم انهارت جبهة المحدثين وتمت الغلبة للمعتزلة.

وولي المعتصم وكان رجلاً قوي الجسم يستطيع أن يصارع أسداً، ولكنه كان ضعيف العلم لا يستطيع أن يناظر أحداً، وكان يجلّ أخاه المأمون ويراه مثله الأعلى فسار على طريقته ولكنه إلا حتى جاوز الحدود.

ولبث الإمام أحمد في السجن، وبلغ به الضعف كل مبلغ، ومع ذلك فقد كان دائم العبادة، حاضراً مع الله. حدث ابنه بأن الإمام أحمد قرا عليه كتاب الإِرجاء وغيره في الحبس، وبأن رآه يصلي بأهل الحبس وعليه لقيد، فكان يخرج رجله من حلقة القيد، وقت الصلاة والنوم.

وبعث المعتصم علماءه وقواده يناظرونه، فكان يرفض الدخول في المناظرة ويأبى الموافقة إلا بدليل من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحمل إلى حضرة المعتصم. وجرت المناقشة إمامه، فكان يصرَّ على هذا الرد ويقول: "أعطوني شيئاً من كتاب الله أو من سنة رسوله". وجربوا أنواع الترغيب بالعطايا والمناصب، وأنواع الترهيب بالتعذيب الشديد. فلم يؤثر ذلك فيه أثراً.

وبعثوا إليه بالعلماء يأتونه من باب التقية، فكان يقول لهم: "إن من قبلنا كانوا ينشرون بالمنشار فلا يرجعون". وأظهر مرة أنه لا يخاف السجن، ولكن ⦗٢٥⦘ يخاف الضرب، يخشى ألاّ يحتمل فتهزم فكرته. فقال له أحد اللصوص وكان معه في السجن. "أنا ضربت عشرين مرة، يبلغ مجموعها آلاف الأسواط، فاحتملتها في سبيل الدنيا، وأنت تخاف أسواطاً في سبيل الله، إنما هما سوطان أو ثلاثة فلا تحس شيئاً" فهوَّن ذلك عليه.

ولما عجز المعتصم نصب آلة التعذيب ومدوه عليها وضربوه، فانخلعت كتفه من الضربة الأولى، وانبثق من ضهره الدم، فقام إليه المعتصم يقول: يا أحمد قل هذه الكلمة وأنا أفك عنك بيدي وأعطيك وأعطيك، وهو يقول: هاتوا آية أو حديثاً.

فقال المعتصم للجلاد: شد قطع الله يدك. فضربه أخرى فتناثر لحمه.

وقال له المعتصم: لماذا تقتل نفسك مَن مِن أصحابك فعل هذا؟.

وقال له أحد العلماء وهو المروزي: ألم يقل الله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم) .

قال أحمد رضي الله عنه: يا مروزي فانظر أي شيء وراء الباب فخرج إلى صحن القصر فإذا جمع لا يحصيهم إلا الله معهم الدفاتر والأقلام. قال: أي شيء تعلمون؟

قالوا: ننظر ما يجيب به أحمد فنكتبه. فرجع. قال: يا مروزي أنا أضلّ هؤلاء كلهم؟

أقتل نفسي ولا أضل هؤلاء كلهم!.

ولمَّا عجز المعتصم قال لجلادين: اضربوا وشدوا. فكان يجيء الواحد فيضربه سيوطين، ثم يتنحى ويأتي الآخر، حتى خلعت كتفاه، وغطَّى الدم ظهره كله. ⦗٢٦⦘

وانقطعت تكة سراويله فكادت تسقط وينكشف. ورآه الناس يحرك شفتيه. فتقف السراويل مكانهم وسألوه بعد. فقال: قلت: يا رب إن كنت تعلم أني على الحق فلا تهتك لي ستراً.

حتى أشرف على الموت، وخاف المعتصم أن يثور الناس إن مات، فرفع عنه الضرب وسلمه لأهله، بعدما لبث في السجن والقيود ثمانية وعشرين شهراً. وأرادوا أن يسقوه شيئاً فأبي أن يفطر وهو فيما هو فيه من الهول. ولم يخرج حتى أعلن أنه سامح المعتصم وكل من حضر ضربه، وبقي أثر الضرب فيه وبقيت كتفه مخلوعة حتى مات.

على أن المحنة لم ترفع تماماً إلا أيام المتوكل، وكانت محنة حقاً، دامت نحواً من أربع عشرة سنة، تراخى عنه العذاب والتنكيل والاضطهاد في نصفها واستمر في سائرها.

وخرج الإِمام أحمد من هذه المحنة خروج السيف من الجلاء والبدر من الظلماء، وكان كما قال بعض معاصريه: "أُدخل الكبير فخرج ذهباً أحمر". ولم يزل بعد ذلك اليوم في صعود واعتلاء، حتى تواضعت القلوب على حبه وأصبح حبه شعار أهل السنة وأهل الصلاح، حتى نقل عن أحمد معاصريه أنه قال: "إذا رأيت الرجل يحب أحمد بن حنبل فاعلم انه صاحب سنة". وقال شاعر:

أضحى ابنُ محنةً مأمونةً * ويجبِّ أحمدَ يُعرفُ المُتَنَسِكُ

وإذا رأيت لأحمد مُتنقِّصاً * فاعلم بأنَّ ستورُهُ ستهتكُ

وقال علي بن المدني أحد أئمة الحديث في عصره، ومن شيوخ البخاري:

"إنَّ الله أعزَّ هذا الدين بأبي بكر الصديق يوم الردة، وبأحمد بن حنبل يوم المحنة".

<<  <   >  >>