- قصتي مع هذا الكتاب هي قصة طفولتي وشبابي. عندما كنت أنصت بنهم شديد إلى أبيات الحكمة والمثَل يسوقها الخطباء في تضاعيف خطبهم، ويوردها الشيوخ المثقفون في نواديهم ومجتمعاتهم. وفي كثير من الأحيان ما يتبع المسنون حكمتهم بآهة أو تنهيدة تخرج من الأعماق.
هذا الإنصات الشديد ولد عندي ميلاً إلى حفظ أبيات الحكمة والمثل واستظهارها، ثم ازداد الحفظ حتى صار طاغياً جارفاً. فبدأت بتسجيل محفوظاتي، ثم ازداد التسجيل أثناء دراساتي الجامعية ثم أثناء قراءاتي المتعددة لتأليف كتبي السابقة. واستمررت على ذلك حتى اجتمع عندي ركام ضخم جعلني أفكر جاداً أن أخرجه في كتاب. ولاحظت أثناء البحث كثرة الكتب التي تجمع الحكمة النثرية وقلة الكتب التي تجمع الحكمة الشعرية. فهي إما نادرة أو معدومة أو ناقصة. أمر زاد من تصميمي وشجعني أكثر من قبل.
وفي النهاية استطعت أن أقدم للقارئ الكريم شعر الحكمة والمثل منذ القرون الأولى للعربية، منذ زمن يعرب بن قحطان جد العرب الأقدمين حتى آخر شاعر في القرن العشرين. ما نطق شاعر قديم أو حديث بحكمة أو مثل إلا نظرت فيها فأخذتها إن كانت جديرة بالاهتمام وإذا لم أجدها جديرة حذفتها واحتفظت بها لعلي أخرجها في كتاب آخر إن سمحت لي الظروف بذلك.
حذفت الضعيف والغامض والشاذ والشعر الذي كان يستعمل للمهارة اللغوية والمقدرة اللفظية أما المطولات التي قيلت في الزهد والحكمة فمنها ما أكرهني على إبقائه على حاله لم أستطع أن أحذف منه شيئاً ومنها ما أخذت منه الجيد الواضح فحسب، ومنها ما قسمته بحسب أفكاره فنثرتها في أبواب الكتاب كل بحسب مكانه وموقعه.
ووضعت اسم الشاعر إلى جانب الأبيات التي قالها. وإذا تعدد القائلون لأبيات معينة جعلتها إلى من اشتهرت الأبيات إليه وشاعت عنه. وإذا عييت عن معرفة القائل الحقيقي استسلمت لذكر اسم الشاعرين أو الشعراء الذين نسبت الأبيات إليهم.
وأنا الآن راض عن كتابي هذا. أشعر أن مثل هذا الموضوع لا يمكن أن يخرج إلى الوجود إلا بهذا الشكل وأشعر بغبطة كبيرة إذا استطعت أن أقدم لجيل القرن العشرين ما أعتقد أن الأجيال السابقة قد عجزت عنه، أقدم كتاباً أشعر أنه سيسد فراغاً كبيراً كانت المكتبة العربية تعانيه منذ عصور. أشعر بأنني سأدخل في هذا الكتاب إلى قلب كل قارئ لأحرك فيه الشعور نحو المثل الأعلى، سأجعله يسبح في عالم الفضيلة والكمال وأحرك وجدانه كي يلتمس الأفضل في كل شيء، في نطقه في تفكيره في تصرفاته في حبه وفي مصيره بعد الموت.
وأشعر أيضاً أنني سأفتح في هذا الكتاب باباً واسعاً للدارسين والباحثين سأجعلهم يخوضون غمار بحوث كثيرةٍ وأبواب كانت موصدة أمامهم من قبل.
طريقة الترتيب والتبويب
لقد رتب الكتاب في مجمله ترتيب المعجمات، تطالع أي فكرة فيه كما تطالع أي كلمة من معجم أوائل. فيما يتعلق بالحب مثلاً تجده في باب الحاء، مادة حب، وما يتعلق بالزواج تجده في باب الزاي مادة زواج وهكذا دواليك.
ففي هذا الكتاب ثمانية وعشرون باباً بعدد حروف الهجاء، في اللغة العربي. وفي كل باب تسلسل الموضوعات فيه تسلسل حروف الهجاء من ناحية الحرف الثاني والثالث. وسعيت أثناء أن تكون الكلمة موضوع الفكرة واردة في أول البيت الشعري أو الأبيات الشعرية فعلاً أو حكماً، حكماً كأن يكون الشاعر قد أخر الكلمة بسبب الوزن أو بسبب آخر. فإذا لم ترد الكلمة فعلاً أو حكماً في البيت الشعري فينبغي عندئذ أن تكون فكرته تدور حول موضوع العنوان بشكل واضح.
فإذا رغب القارئ في أبيات يدور موضوعها حول الصداقة مثلاً فما عليه إلا يفتح باب الصاد مادة صداقة. وسوف يجد الصداقة ضمن هذا الباب بعد الصبر وقبل الصمت، لأن الدال وهي الحرف الثاني في الكلمة تأتي بعد الباء وقبل الميم وهما الحرف الثاني في الصبر والصمت، وقس على ذلك بقية الموضوعات. لم أتعمق في معرفة أصل الكلمة المعجمي، بل وضعتها بحسب ورودها في الأبيات، فالتقوى مثلاً في باب التاء والمصبية في باب الميم والتأني في باب التاء، وقس على ذلك. وبعد فالله أسأل أن أكون قد وفقت إلى خدمة أمتي وإلى ما ينفع لغتها الحبيبة والسلام.
دمشق في ١/١/١٩٧٩
أحمد قبش.