التّوكيد:
-١ تَعريفُه وقسماه:
هو تَابعٌ يُذْكَرُ تَقْريراً لمتْبُوعهِ لرفعِ احْتِمالِ التَّجَوُّزِ أو السَّهْو، وهو قِسْمان: تَوكيدٌ لَفْظِيٌّ وتَوْكِيد معنوي.
-٢ التَّوْكِيد اللَّفظي:
يكونُ التَّوكيدُ اللَّفظيُّ بإعادة اللفظ (أو إعادة مرادفه كقولك: أنت بالخير حقيق قمِن) ، الأوّل، فِعْلاً كانَ أو اسْماً أو حَرْفاً أو جُمْلَةً، فإنْ كان فِعلاً كُرّر بدون شَرْط، نحو "حَضَرَ حَضَرَ القَاضِي". و "يظهرُ يظهرُ الحقُّ".
وإنْ كانَ اسْماً ظاهراً أو ضميراً منفصلاً مَنصوباً كُرِّرَ بدونِ شَرْطٍ فمثالُ التوكيدِ في الاسمِ قوله عليه السَّلام: (أَيُّمَا امرأةٍ نَكَحَتْ نفسَها بغيرِ ولَيٍّ فنكاحُها باطِلٌ باطِلٌ) (هكذا روى النحاة هذا الحديث ومنهم الأشموني شارح الألفية وفيه مثال توكيد الاسم الظاهر، أما الحديث كما رواه الترمذي في سننه فهو كما يلي: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل) وقال الترمذي: حديث حسن، وفيه مثال التوكيد اللفظي بإعادة الجملة وفي سنن أبي داود: (أيما امرأةٍ نكَحت بغير إذن وليِّها فنكاحها باطل) ثلاث مرات) .
ومثال الضمير قول الشاعر:
فإيَّاكَ إيَّاكَ المِراءَ فإنَّهُ ... إلى الشَّرِّ دَعَّاءٌ وللشَّرِّ جَالِبُ
وإنْ كانَ ضَميراً مُنْفَصِلاً مَرْفُوعاً جازَ أن يُؤكَّدَ به كلُّ متَّصلٍ نحو "قُمْتَ أَنْتَ" و "أكرَمْتُكَ أنت" و "نظَرتُ إليكَ أنتَ".
وإن كان ضميراً متصلاً وُصِلَ بما وُصِلَ به المؤكَّدُ نحو "عجبتُ منكَ". وإن كان حَرْفاً، فإن كانَ جَوابياً كُرِّرَ بدونِ شَرْطٍ، نحو "نَعَمْ نعمْ" ومنه قولُ جميل بُثَينة:
لاَ لاَ أَبُوحُ بِحُبِّ بَثْنَةَ إنَّها ... أَخَذَتْ عليَّ مَواثِقاً وعُهُوداً
وإن كان الحرفُ غيرَ جَوابي وجَبَ أَمْران: أن يُفصَلَ بَينَهُما، وأن يُعادَ مع التَّوكيد ما اتَّصلَ بالمُؤكَّد إن كان مُضْمراً نحو: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إذا مِتُّمْ وكُنْتُمْ تراباً وعِظَاماً أنكم مُخْرَجُون} (الآية "٣٥" من سورة المؤمنون "٢٣") .
فـ "أنكم" الثانية توكيدٌ للأولى، وقد أُعِيدَت مع اسْمها وهو الكاف والميم. وأن يُعَادَ هو أو ضميرهُ إن كان المؤكَّد ظاهراً نحو "إنَّ محمَّداً إنَّ محمَّداً فاضلٌ" و "أنَّ عليّاً إنَّه أديبٌ" وعَوْد ضميرِهِ هو الأَولَى، وشَذَّ اتِّصالُ الحرفين في قوله:
إنَّ إنَّ الكريم يَحْلُمُ ما لَمْ ... يَرَيَنْ مَنْ أَجارَه قَدْ ضِيمَا
-٣ التَّوكيدُ المعنوي:
للتَّوكيدِ المعنويّ سبعةُ ألْفاظٍ:
(الأَوَّل والثَّاني) : "النَّفْسُ والعَيْن" ويُؤَكَّدُ بِهما لِرَفْعِ المجازِ عنِ الذَّاتِ تقولُ: "جاء الأميرُ" فيُحْتَمَلُ أنْ يكونَ الجائي متاعَهُ أو حَشَمَه، فإذا أكَّدْتَ "بالنَّفْس أو العَيْنِ" أو بِهِما مَعاً بشَرْطِ بقديمِ النَّفْسِ ارتَفَعَ ذلك الاحْتمالُ، ويَجبُ اتِّصالُهما بِضَمِيرٍ مطابقٍ للمؤكَّدِ في الإفراد والتَّذكيرِ وفُرُوعِهِما نحو: "جاء الأميرُ نَفْسُهُ". أو "جَاءَ الأمير عَيْنُه" أو "جَاءَ الأميرُ نَفْسُهُ عينُه" ويجوزُ جَرُّهُما بـ "باء" زائِدَةٍ: فتقول: "جاءَ زيدٌ بنَفْسِهِ". و "هنْدٌ بِعَيْنِها" ويَجِبُ جمعُ النَّفْسِ والعَيْن" على "أَفْعُل" إنْ أَكَّدا جَمْعاً تقولُ: "قامَ الزَّيْدُون أنْفُسُهم أو أعْيُنُهُم" و "جاءَ الهِنْدَاتُ أَنْفُسُهُنَّ أو أعيُنُهُنَّ".
والأَوْلَى مع المثنى أن يُجمَعَ على "أفعُل" أيضاً تقول "حَضَر المُعَلِّمان أنْفُسُهُمَا" و "ذهبت المُعَلّمتَانِ أعْيُنُهُمَا".
وتقول: "إيَّاكَ أنْتَ نَفْسُكَ أنْ تَفْعل" و "أيَّاكَ يَفْسَك أنْ تَفْعَل" الأولى بضم السين في يفسِك، والثانية بفتح السين فإنْ عيَّنتَ الفاعلَ المُضمَرَ في النية: قلت: "إياكَ أنتَ نَفْسُك" كأنك قلت: "إيَّكَ نَحِّ أنْتَ نَفْسَك" وَحَمَلْتَهُ على الاسم المضمر في نحِّ، فإن قلت: "إياكَ نَفسُك" تريد الاسمَ المضمرَ الفاعلَ فهو قَبِيح، وهو على قُبحِه رَفعٌ.
(والخمسة الباقية) "كِلاَ" للمُثَنَّى المُذكَّر، و "كلْتَا" للمثنى المؤنَّث، و "كلّ وجَميع وعامَّة" للجَمْع مُطلقاً، وللمُفرِد بِشَرْطِ أن يكونَ له أجْزاءٌ، تقول: "جاء الزيدان كِلاهما". و "الهِنْدَان كِلْتاهُما" و "الرِّجَالُ كلُّهُمْ أو جَميعُهُم" و "الهِنْدَاتُ كُلُّهُنَّ أوجَمِيعُهُنَّ" و "الجَيْشُ كلُّهُ أو جميعُهُ" و "القَبيلةُ كلُّها أو جَمِيعُها" وكلُّ هذا يجوزُ فيه تقديرُ "البعضِ" إذا لم يُؤَكَّد فتقولُ: "جاء بعضُ الجَيْش" أو "القَبيلةِ" أو "الرِّجالِ أو الهِنْدَاتِ" ويُؤْتى بالتَّوكيد لرفْعِ هذا الاحْتمالِ. ولا يجوزُ: "جاءني زيدٌ كلُّهُ ولا جَمِيعُه" وكذا لا يجوزُ "اخْتَصَمَ الزيدان كِلاهما" لامتناع تقدير "بعض" ولا بُدَّ مِن اتِّصَالِ ضَميرِ المؤكَّدِ بهذه الأَلْفَاظِ ليَحْصُلَ الرَّبطُ بين المؤكَّدَ والمؤكِّدِ.
ولا يَجوزُ حَذْفُ الضَّمير استغناءً بنية الإِضَافة، ولا حُجَّةَ في قولِه تعالى: {لو أَنْفَقْتَ ما في الأرْضِ جَمِيعاً} (الآية "٦٣" من سورة الأنفال "٨") على أنَّ المعنى: جميعَهُ، بل "جميعاً" حال، ولا في قِرَاءَة بَعْضِهم: {إِنَّا كُلاًّ فِيهَاْ} (الآية "٤٨" من سورة غافر "٤٠" والقراءة المشهورة: إنا كلٌّ فيها) لأَنَّ كُلاًّ بَدَل من اسم "إن" وقد يُسْتَغنى عن الإضَافَةِ إلى الضَّمِير بالإِضافةِ إلى مثلِ الظّاهِرِ المؤكَّدِ بـ "كل".
ومن ذلك قولُ كُثَيِّر:
كم قَدْ ذَكَرْتُكِ لو أُجْزَى بذكْرِكُمُ ... يا أشْبَهَ النَّاسِ كلِّ الناسِ بالقَمَرِ
-٤ تَتَابُع المُؤكِّداتِ:
إذا أُريدَ تقوية التَّوكيدِ يجوز أنْ يتبع "كلَّه" بـ "أَجْمَعَ" و "كلَّها" بـ "جَمْعَاء" و "كلَّهُم" بـ "أَجْمَعِين" و "كلَّهُنَّ" بـ "جُمَع" قال تعالى: {فَسَجَدَ الملائِكَة كُلُّهُمْ أَجْمَعُون} (الآية "٣٠" من سورة الحجر "١٥") . وقد يُؤَكَّد بهنَّ وإذا أَرَدْتَ أن تؤكد أكْثَر قلت: جاء القومُ أجْمَعُونَ أكْتَعُونَ أبْصَعُونَ أبْتَعُونَ، وبهذا الترتيب (=في حروفها) وقد يؤكد بأجمعين وإن لم يَتَقَدَّمْ "كُلّ" نحو: {ولأُغْوِيَنَّهمْ أَجْمَعِين} (الآية "٣٩" من سورة الحجر "١٥") و {وإنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدهُمْ أَجْمَعين} (الآية "٤٣" من سورة الحجر "١٥") . ولا يَجوز تَثْنِيَة "أَجْمَعَ وجَمْعَاء" استِغْنَاءً بـ "كِلا وكِلْتَا" = (كِلا وكلتا".
-٥ تَوْكيد النكرة:
لا يَجُوز باتِّفاقٍ تَوْكِيدُ النَّكِرَة إذا لم تُفِدْ، وإنْ أفادَ جَازَ، وإنَّما تَحْصُل الفَائِدَة بأن يكونَ المُؤكَّد مَحْدُوداً، والتَّوكيدُ مِنْ أَلْفَاظِ الإِحَاطَةِ والشُّمولِ كقوله:
لَكِنَّه شَاقَه أنْ قِيلَ ذا رَجَبٌ ... يا لَيْتَ عِدَّة حَولٍ كلِّه رَجَب
(الشاهد فيه توكيد "حول" بـ "كله" وهو نكرة، وهذا مذهب الكوفيين وهو من الشواذ عند البصريين وصحة السماع تدل على أنه غير شاذ كما قال العيني)
ولا يجوزُ صُمْتُ زَمَناً كُلَّه، ولا شَهْراً نَفْسَه.
-٦ تَوْكيد الضَّمير:
إذا أُريدَ تَوْكِيد ضَمِيرٍ مَرْفُوعٍ بـ "النَّفْسِ" أو "العَيْنِ" وجَبَ توكيده أوّلاً بالضميرِ المنفصل نحوَ: "قُومُوا أَنْتُمْ أنْفُسُكُمْ".
أمَّا الظَّاهِرُ فَيَمْتَنِعَ فيه الضَّمير نحو: "سَافَرَ المحمَّدون أَنْفُسُهُمْ". وكذا الضَّمير المنصوب والمجرور نحو: "كَلَّمْتُهُمْ أَنْفُسَهُمْ" و "نظرت إلَيْهِمْ أعينِهِمْ".
وإن كانَ التَّوكيدُ بغَيرِ النَّفْسِ والعَيْنِ فالضَّميرُ جائزٌ لا وَاجِبٌ نحو "قَاموا كلُّهُمْ".
-٧ ملاحظات في التَّوْكِيد:
(١) الضَّمير المَنْصُوبُ لا يُؤَكَّدُ بالضَّمير المُنْفَصِل المَنْصُوب.
(٢) إذا جَعَلْتَ الضَّميرَ تَأْكِيداً فهو باقٍ على اسْمِيتهِ فتحْكمُ على مَوْضِعِه بإعرابِ ما قَبلَه، وليس كذلك إذا كانَ متَّصِلاً.
(٣) إذا أَكَّدْتَ، أو فَصَلْتَ (يريد ضمير الفصل في نحو "كان زيد هو العَالِمَ" فهو ضمير فصل لا محل له من الإعراب) ، فلا يكون إلاّ بضميرِ المرفوع.
(٤) تأكيدُ ضَمير المَجْرور بضَمير المَرْفُوع على خِلافِ القِياس.
(٥) تأكيدُ ضَميرِ الفاعِل بضَمير المَرْفُوع جارٍ القياس.
(٦) إذا تَكرَّرَتْ أَلْفَاظُ التَّوكيد فهو للمُؤَكَّدِ وليس الثاني تأكيداً للتَّأكيد.
(٧) لا يجوزُ في أَلْفاظِ التَّوكيدِ القطع إلى الرَّفع (مَعْنى القطع: قَطعُ الكلمة في الإعراب عن التبعية لما قبلها وهذا جائِزٌ في جميع التوابع للرفع والنصب ولا يجوز في التوكيد، مثال القطع في الصفة للرفع "رأيت خالداً الماهرُ" الأصل: الماهرَ، بالفتح تبعاً لخالد ويجوز الرفع على أنها خبرٌ لمبتدأ محذوف، ويجوز "جاء خالدٌ الماهرَ" بالفتح الأصلُ الماهرُ بالضم ويجوز الفتح على أنها مَفعولٌ به لفعلٍ مَحذُوف التقدير: أريدُ أو أَعْني، هذا معنى القطع، وقج ذكر في التوابع: وهي النعت والبدل والعطف) ولا إلى النَّصب.
(٨) لا يجوزُ عَطْفُ بعضها على بعض، فلا يقال: نَهضَ محمَّدٌ نفسُه وعينُه.
(٩) أَلْفَاظُ التوكيدِ مَعَارِفُ وإمَّا بالإِضَافَةِ الظَّاهرَة، أو المُقَدَّرة، كما في أَجْمَع وَتَوابِعه.
(١٠) لا يُحذَفُ المُؤَكَّدُ ويقام المؤكِّدُ مَقامَهُ.
(١١) "كُلّ" إذا كانَتْ بمعنى كامل نحو: "زرْتُ الصَّدِيقَ كُلَّ الصَّديق" تُعْرَبُ نعتاً لا تَوْكِيداً وَلا يَجُوزُ قَطْعُها إلى الرفْع أو النَّصبِ (أي مع أنها صفة لا يجوز قطعها لأنها كالتوكيد) . ويجبُ أن تُضَافَ إلى مثلِ المَتْبوعِ لا إلى ضَمِيرهِ.
(١٢) يجبُ مُلاحظةُ المعنى من خبر "كلّ" مُضافاً إلى نكرةٍ، فيجبُ مطابقته للنّكرة المضافِ إليها "كل" نحو: {كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ المَوْتِ} و {كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُون} .
وَلا يَلْزمُ ذلك في المُضَافةِ إلى مَعْرِفةٍ فتقول: "كُلُّهمْ ذاهِبٌ" أو "ذاهِبون".
(١٣) ألفاظ في التوكيد:
قد يُؤَكَّد بأَلْفاظٍ غيرِ مَا مَرَّ وهي: "أكْتَع وأَبْصَع وأبْتَع" تقول "جاءَ القَوْمُ أجْمَعُون أكْتَعُون أبْصَعُون أبْتَعُون" زيادةً في التوكيد.
(=في أحرفها) .