للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

-أمر الله سبحانه وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما جاءه منه وأن ينادي الناس بأمره وأن يدعو إليه. وكان بين اخفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره واستتاره به وبين أمر الله تعالى اياه باظهار دينه ثلاث سنين من بعثه ثم قال الله تعالى له {فَاصْدَعْ بمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١) } أي لا تبال بهم ولا تلتفت إلى لومهم اياك على اظهار الدعوة. وقال تعالى {وَأّنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المْؤْمِنِينَ (٢) } . فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا (٣) . فقال: يا معشر قريش. فقالت قريش محمد على الصفا يهتف. فأقبلوا واجتمعوا. فقالوا مالك يا محمد؟ قال أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل أكنتم تصدقوني؟ قالوا نعم أنت عندنا غير متهم وما جربنا عليك كذبا قط. قال فأني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. يا بني عبد المطلب. يا بني عبد مناف. يا بني زهرة حتى عدد الأفخاذ من قريش إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين وأني لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا من الآخرة نصيباً الا أن تقولوا لا إله إلا الله. فقال أبو لهب "تباً لك" سائر اليوم. ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله تبارك تعالى {تَبَّتْ يَدَا أَبي لَهَبٍ} السورة كلها. فلما سمع أبو لهب قوله {تَبَّتْ يَدَا أَبي لَهَبٍ وَتَبَّ} قال إن كان ما يقول محمد حقاص افتديت منه بمالي وولدي فنزل {ماَ أغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} وكان أبو لهب إذا سأله وفد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنه ساحر ومجنون لينصرفوا عنه قبل لقائه. وقد أغضبت هذه السورة أبا لهب فأظهر شدة العداوة وصار متهما فلم يقبل قوله في رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنه خاب سعيه وبطل غرضه. وروى عن طارق المحاربي أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوق يقول أيها الناس: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ورجل خلفه يرميه بالحجارة وقد أدمى عقبيه. وقال لا تطيعوه فإنه كذاب. فقلت من هذا؟ قال محمد وعمه أبو لهب. أما امرأته فهي أم جميل بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان بن حرب عمة معاوية فكانت أيضا في غاية العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وترمى الشوك في طريقه.

وعن الزهري أنه قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الاسلام سراً وجهراً فاستجاب لله من شاء من أحداث الرجال وضعفاء الناس حتى كثر من آمن به وكفار قريش غير منكرين لما يقول. فكان إذا مرّ عليهم في مجالسهم يشيرون إليه أنه غلام بني عبد المطلب ليكلم من السماء فكان ذلك حتى عاب آلهتهم التي يعبدونها وذكر هلاك آبائهم الذين ماتوا على الكفر فشَفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك وعادوه.

وعن ابن عتبة أنه قال. لما أظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم الاسلام ومن معه وفشا أمره بمكة ودعا بعضهم بعضا فكان أبو بكر يدعو ناحية سراً وكان سعيد بن زيد مثل ذلك وكان عثمان مثل ذلك وكان عمر يدعو علانية وحمزة بن عبد المطلب وأبو عبيدة بن الجراح فغضبت قريش من ذلك وظهر منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم الحسد والبغي وأشخص به منهم رجال فبادوه وتستر آخرون وهم على ذلك الرأي إلا أنهم ينزهون أنفسهم عن القيام والأشخاص برسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان أهل العداوة والمباداة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين يطلبون الخصومة والجدل أبو جهل بن هشام وأبو لهب بن عبد المطلب والأسود بن عبد يغوث والحارث بن قيس بن عدي وهو ابن الغيلطة والوليد بن المغيرة وأبيّ بن خلف وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة والعاص بن وائل والنضر بن الحارث ومنبه بن الحجاج وزهير بن أبي أمية والسائب بن صيفي بن عابد والأسود بن عبد الأسد والعاص بن سعيد بن العاص والعاص بن هاشم وعقبة بن أبي مُعَيط وأبو الأصديى الهُذلى والحكم بن أبي العاص وعدي بن الحمراء وذلك أنهم كانوا جيرانه والذين كانت تنتهي عداوة رسول الله إليهم أبا جهل وأبا لهب وعقبة بن أبي معيط. وكان عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو سفيان بن حرب أهل عداوة ولكنهم لم يشخصوا بالنبي صلى الله عليه وسلم كانوا كنحو قريش ولم يسلم منهم أحد إلا أبو سفيان (٤) .

أول من جهر بالقرآن

كان أول من جهر بالقرآن بمكة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود. اجتمع يوماً أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط. فمن رجل يسمعهم فقال عبد الله بن مسعود (٥) : أنا. فقالوا انا نخشاهم عليه إنما نريد رجلا هل عشيرة تمنعه من القوم ان أرادوه. فقال دعوني: فإن الله سيمنعني. فغدا عبد الله حتى أتى المقام في الضحى وقريش في أنديتها حتى قام عند المقام. فقال رافعاً صوته: {بِسْمِ الله الرَّحمَنِ الَّرحِيمِ ... الرَّحمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ} . فاستقبلها فقرأبها فتأملوا. فجعلوا يقولون ما يقول ابن أم عبد؟ ثم قالوا أنه ليتلو بعض ما جاء به محمد. فقاموا فجعلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ. ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا بوجهه. فقالوا: هذا الذي خشينا عليك. فقال: ما كان أعداء الله قط أهون عليّ منهم الآن ولئن شئتم غاديتهم بمثلها غدا. قالوا حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون.


(١) سورة الحجر.
(٢) سورة الشعراء.
(٣) مكان مرتفع من جبل أبي قبيس بمكة.
(٤) راجع طبقات ابن سعد.
(٥) كان عبد الله بن مسعود قصيراً جداً طوله نحو ذراع خفيف اللحم دقيق الرجلين. يقال أن عبد الله سادس من أسلم. وقد هاجر الهجرتين وشهد بدراً وأحداً والخندق وبيعة الرضوان وسائر المشاهد مع رسول الله وهو الذي أجهز على أبي جهل.

<<  <  ج: ص:  >  >>