للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

-تحيرت ألباب العرب في القرآن الذي نزل بلغتهم وهم أهل فصاحة وبلاغة. وخشيت قريش أن ينتشر الاسلام وينتصر النبي صلى الله عليه وسلم بدينه على الأصنام. فاتفقوا على اطلاق اسم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفر القبائل منه، ويشوه سمعته، ويكون عقبة في سبيل نشر دعوته. ذلك أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش وكان ذا سن فيهم. وقد حضر الموسمُ فقال لهم: يا معشر قريش أنه قد حضر هذا الموسمُ. وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه. وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، ويرد قولكم بعضه بعضا. فقالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأيا نقول به. قال بل أنتم قولوا اسمع. قالوا نقول كاهنا قال والله ما هو بكاهن: لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه (١) . قالوا فنقول مجنون. قالوا ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخَنْقه ولا تخالجه ولا وسوسته (٢) . قالوا فنقول شاعر. قال ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كلّه رَجَزَه، وهزجه، وقريضه، ومقبوضه، ومبسوطه (٣) فما هو بالشعر. قالوا فنقول ساحر. قال ما هو بساحر، لقد رأينا السُّحار وسحرهم فما هو بنَفْثه ولا عقده (٤) . قالوا فما نقول يا أبا عبد شمس؟ والله إن لقوله لحلاوة، وان أصله لعَذْق (٥) وإن فرعه لجَنَاةٌ (٦) وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول لأن تقولوا ساحر جاء بقول هو يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك. فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمر أحد الا حذروه اياه. لكن النتيجة جاءت عكس ذلك فقد انتشر ذكره صلى الله عليه وسلم في بلاد العرب.

وقد كان ضماد بن ثعلبة الأزدي صديقا للنبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية. وكان رجلا يتطبب ويرقى ويطلب العلم. فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون إن محمدا مجنون. فجاءه وقال أني راق فهل بك من شيء فأرقيك؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم بقوله "الحمد لله نحمده ونستعينه. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وإن محمداً عبده ورسوله، أما بعد" فقال له ضماد أعد عليّ كلماتك هؤلاء، فأعادهن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا. فقال والله لقد سمعت قول الكهنة، وسمعت قول السحرة، وسمعت قول الشعراء، فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات. لقد بلغت ياعوس البحر، فمد يدك أبايعك على الاسلام فمد النبي صلى الله عليه وسلم يده فبايعه وأسلم (٧) .


(١) الزمزمة كلام خفي لا يفهم. السجع أن يكون الكلام المنثور له نهايات كنهايات الشعر.
(٢) بخنقه. يريد الأختناق الذي يصيب المجنون. والتخالج اختلاج الأعضاء وتحركها عن غير ارادة والوسوسة ما يلقيه الشيطان في نفس الإنسان.
(٣) هذه كلها أنواع من الشعر.
(٤) اشارة إلى ما كان يفعل الساحر من أن يعقد خيطا ثم ينفث عليه. ومنه قوله تعالى:"ومن شر النفاثات في العقد" يعين الساحرات.
(٥) العذق الكثير الشعب والأطراف في الأرض.
(٦) أي فيه ثمر يجنى.
(٧) راجع أسد الغابة.

<<  <  ج: ص:  >  >>