لما رأت قريش أن أبا طالب قد قام دون النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسلمه لهم، مشى رجال من أشرافهم إلى أبي طالب: عُتبة وشبيبة انا ربيعة. وأبو البَختري بن هشام. والأسود بن المطلب. والوليد بن المغيرة. وأبو جهل بن هشام. والعاص بن وائل. ونُبيه ومُنَبِّه ابنا الحجاج. ومن مشى منهم. فقالوا يا أبا طالب: إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فأما أن تكفه عنا وأما أن تخلى بيننا وبينه فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه. فقال لهم أبو طالب قولا جميلا، وردهم ردا رقيقا، فانصرفوا عنه ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هو عليه. هذه هي المفاوضة الأولى، لكنها لم تثمر شيئا، إذ ظل الرسول يدعو إلى عبادة الله كما كان.
المفاوضة الثانية
ثم لما تباعد الرجال وتضاغنوا، وأكثرت قريس ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكروا في مفاوضة أبي طالب مرة أخرى. فمشوا إليه وقالوا: يا أبا طالب إن لك سناً وشرفاً وانا قد اشتهيناك أن تنهي ابن أخيك فلم تفعل. وأنا واللذه لا نصبر على هذا من شتم آلهتنا وآبائنا، وتسفيه أحلامنا حتى تكفه عنا، أو ننازله واياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين ثم انصرفوا عنه. ومعنى ذلك أنهم هددوا أبا طالب في هذه المرة وأظهروا له العداوة، فعظم عليه فراق قومه وعداوتهم، ولم تطب نفسه باسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخذلانه، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلمه ما قالت قريش، وقال له: أبق على نفسك وعلىّ ولا تحملني من الأمر مالا أطيق. فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمه قد خذله وضعف عن نصرته. فقال له "يا عماه لو وضعوا الشمس في يميني القمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ماتركته" ثم بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام. فلما ولّى ناداه أبو طالب فأقبل عليه وقال: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبدا.
المفاوضة الثالثة
أصر أبو طالب على الدفاع عن ابن أخيه قياماً بالواجب عليه نحو من تربى في كفالته ونشأ في بيته وعملا بالمروءة. ولكنه مع ذلك بقى على دينه ولم يعنتق الإسلام. لذلك صارت مهمته شاقة ومركزه حرجاظص فأمامه قريش متعصبة لدينها وقد أغضبها قيام محمد صلى الله عليه وسلم بنشر الإسلام ومحاربة الأصنام. وصاحب الدعوة لا يثنيه عن القيام بما أمر به سخرية ساخر أو اضطهاد مضطهد فلو أن أبا طالب أسلم لكان دفاعه أعظم وحجته أبلغ أمام العرب وأحكم.
وفي هذه المرة مشوا إلى أبي طالب بعمارة بن الوليد. فقالوا يا أبا طالب: هذا عمارة بن الوليد فتى قريش وأشعرهم وأجملهم فخذه فلك عقله ونصرته فأتخذه ولدا وأسلم لنا ابن أخيك هذا الذي سفه أحلامنا وخالف دينك ودين آبائك وفرّق جماعة قومك نقتله فإنما رجل برجل. فقال والله لبئس ما تسومونني أتعطونني أبنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟ هذا والله لا يكون أبداً. فقال المُطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف لقد أنصفك قومك وما أراك تريد أن تقبل منهم. فقال والله ما أنصفوني ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم عليّ فاصنع ما بدا لك. وكل عاقل يرى أن ما عرضته قريش على أبي طالب في غاية السخف لكنهم كانوا يتلمسون الحيل للخلاص من صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم بأي حال فلما يئسوا من اجابة طلبهم اشتدت قريش على من أسلم فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم. وقام أبو طالب في بني هاشم فدعاهم إلى منع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابوا إلى ذلك واجتمعوا إليه.