للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

-أخذت قريش تؤذي النبي صلى الله عليه وسلم وتؤذي من آمن به حتى عذبوا جماعة من المستضعفين عذابا شديداً يدل على مقدار تعصبهم وقسوتهم.

فمن الذين عذبوا لأجل اسلامهم بلال بن رباح الحبشي مولى أبي بكر. وكان أبوه من سبى الحبشة وأمه حمامة سبية أيضاً وهو من مولدى الشراة وكنيته أبو عبد الله فصار بلال لأمية بن خلف الجُمحي فكان إذا حميت الشمس وقت الظهيرة يلقيه في الرمضاء على وجهه وظهره (١) ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتلقى على صدره ويقول لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى وهو يقول "أحد. أحد". فرآه أبو بكر يعذب، فقال لأمية بن خلف الجمحي ألا تتقي الله في هذا المسكين. فقال أنت أفسدته فأبعدته. فقال عندي غلام على دينك أسود أجلد من هذا أعطيكه به. قال قبلت فأعطاه أبو بكر غلامه وأخذ بلالا فأعتقه. وقيل اشتراه أبو بكر بخمس أواق. أما أمية بن خلف فقتله بلال واشترك مع معاذ بن عفراء وخارجة بن زيد وحبيب بن أساف. قال ابن اسحق: أما ابنه علي فقتله عمار بن ياسر وحبيب بن أساف وذلك في موقعة بدر

ومنهم عمار بن ياسر أبو اليقظان العنسيُّ وهو بطن من مُراد. وعنس هذا أسلم هو وأبوه وأمه وأسلم قديما ورسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم بعد بضعة وثلاثين رجلا. أسلم هو وصهيب في يوم واحد. وكان ياسر حليفاً لبني مخزوم فكانوا يخرجون عماراً وأباه وأمه إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء يعذبونهم بحر الرمضاء فمرَ بهم النبي صلى الله عليه وسلم. فقال "صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة" فمات ياسر في العذاب وأغلظت امرأته سمية القول لأبي جهل فطعنها في قلبها بحربة في يده فماتت وهي أول شهيد في الإسلام وشددوا العذاب على عمار بالحر تارة وبوضع الصخر أحمر على صدره أخرى وبالتفريق أخرى فقالوا لا نتركك حتى تسب محمدا وتقول في اللات والعزى خيراً. ففعل وتركوه. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يبكي فقال ما وراءك؟ قال شر يا رسول الله. كان الأمر كذا وكذا فقال فكيف تجد قلبك. قال أجده مطمئنا بالإيمان. فقال يا عمّر إن عادوا فعد. فأنزل الله تعالى {إلاّ مَنْ أكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ} ومنهم خبّاب بن الأرت وكان إسلامه قديماً قيل سادس ستة قبل دخول رسول الله دار الأرقم فأخذه الكفار وعذبوه عذاباً شديداً فكانوا يعرونه ويلصقون ظهره بالرمضاء ثم بالرضف وهي الحجارة المحماة بالنار ولووا رأسه فلم يجبهم إلى شيء مما أرادوا وهاجر وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل الكوفة ومات سنة ست وثلاثين.

ومنهم صهُيب بن سنان الرومي كناه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا يحيى قبل أن يولد له. وكان ممن يعذب في الله فعذب عذابا شديدا فلما أراد الهجرة منعته قريش فافتدى نفسه منهم بماله أجمع عمر بن الخطاب عند موته يصلى بالناس إلى أن يستخلف بعض أهل الشورى.

ومنهم عامر بن فهيرة مولى الطفيل بن عبد الله وكان الطفيل أخا عائشة لأمها أم رومان أسلم قديما قبل دخول رسول الله دار الأرقم وكان من المستضعفين يعذب في الله فلم يرجع عن دينه واشتراه أبو بكر وأعتقه.

ولما خرج رسول الله وأبو بكر إلى الغار مهاجرين أمر أبو بكر مولاه عامر بن فهيرة أن يروح بغنم أبي بكر عليهما وكان يرعاها وهاجر معهما إلى المدينة يخدمهما. وشهد عامر بدراً وأحدا وقتل يوم بئر معونة سنة أربع من الهجرة وهو ابن أربعين سنة.

ومنهم لبيبة جارية بني مؤمل بن حبيب بن عدي بن كعب أسلمت قبل إسلام عمر بن الخطاب وكان عمر يعذبها حتى تفتن ثم يدعها ويقول إني لم أدعك إلا سآمة فتقول كذلك يفعل الله بك إن لم تسلم فأشتراها أبو بكر فأعتقها.

هذه أمثلة ذكرتها ليتضح للقارئ اشتداد العذاب على هؤلاء المساكين رجالا ونساء.

ومما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من الإيذاء ما قاله ابن عمر وكما في البخاري: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله فلف ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً فجاء أبو بكر فأخذ بمنكبه فدفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية ثم قال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله!

وفي رواية البخاري كان صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة وجمع من قريش في مجالسهم إذ قال قائل منهم ألا تنظرون إلى هذا المرائي؟ أيكم يقول إلى جزوز آل فلان فيعمل إلى فرثها ودمها وسلاها فيجئ به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه. فأنبعث أشقاهم فلما سجد صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً فضحكوا حتى مال بعضهم على بعض من الضحك فأنطلق منطلق إلى فاطمة فأقبلت تسعى وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً حتى ألقته عليهم تسبهم. فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اللهم عليك بقريش ثم سمى فقال اللهم عليك بعمر بن هاشم وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط وعمارة بن الوليد. وقد سقط جميعهم صرعى يوم بدر ثم سحبوا إلى قليب بدر. أما عقبة بن أبي معيط فكان من أسرى بدر وأمر رسول الله بقتله.


(١) ويكفي ذلك تعذيبا لشدة حر مكة في فصل الصيف.

<<  <  ج: ص:  >  >>