للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

-قال عتبة بن ربيعة يوماً وهو جالس في نادي قريش والنبي عليه الصلاة والسلام جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها فنعطيه إيها شاء ويكف عنا وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله يزيدون ويكثرون. فقالوا بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه. فقام إليه عُتبة حتى جلس إلى رسول الله فقال يا أبن أخي إنك منا حيث قد علمت من السِّطَة في العشيرة (١) والمكان في النسب وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرَّقتَ به جماعتهم وسفّهت به أحلامه وعبت به آلهتم ودينهم وكفَّرت به من مضى من آبائهم فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل يا أبا الوليد أسمع. قال يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيًّا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا في أموالنا حتى نُبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُدَاوى منه، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله يستمع منه. قال: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال نعم. قال فاسمع مني. قال افعل. قال:

{بِسْمِ الله الرَّحَمَنِ الرَّحِيمِ. حَم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} ثم مضى رسول الله فيها يقرؤها عليه فلما سمعها عتبة منه انصت لها وألقى يديه خلف ظهره متعمداً عليهما يستمع منه ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد. ثم قال. قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك

فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال ورائي أني قد سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط. والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا الكهانة. يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي. خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وأن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به. قالوا سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه. قال هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم (٢) .

لقد ظن أبو الوليد في بادئ الأمر أن النبي صلى الله عليه وسلم يقبل ما يعرضه عليه من مال وجاه وملك فأظهر له استعداد قريش لمنحه كل ما يبغي على أن لا يتعرص لدينهم ولا يدعوهم إلى ترك عبادة الأصنام. ظن ذلك لأن الإنسان ولا سيما الفقير المحتاج يطمع في المال وتغره أبهة الملك فيتشبث بهما ويسعى إليهما ما وجد للسعي سبيلا ولو كان أبو الوليد عرض ذلك كله أبو بعضه على غير النبي صلى الله عليه وسلم لاغتبط به واتفق مع قريش في الحالوأراح نفسه وأصحابه من العناء والإيذاء والتعذيب والتهديد بالقتل في كل وقت. لكن النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام لم يكن طامحا إلى شيء من ذلك أصلا ولم يكن في وسعه أن يتنحى عن الدعوة إلى الإسلام مهما حاولت قريش صرفه عنها. ألا ترى أنه قال لعمه أبي طالب "والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته" ـوما ذلك إلا لأن الله سبحانه وتعالى قد أمره بنشر الدعوة حيث قال {يَأَيُّهَا المُدَّثِّر قُمْ فَأَنْذِرْ} وقال عز شأنه {وَلِرَبِّكَ فَاصْبرْ} أي اصبر على مشاق التكاليف وأذى المشركين. فكيف بعد هذا الأمر الإلهي تخور عزيمته وتفتر قوته ولا يصبر على كل ما من الإيذاء؟ بل كيف يغتر بحطام الدنيا ويندع لما تعرضه عليه قريش من ملك وجاه ومال؟

ولما رأت قريش أن رسول الله قد رفض ما عرضوه عليه قالوا له يا محمد إن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك، فإنك قد علمت أ، هـ ليس من الناس أحد أضيق بلداً ولا أقل ماء ولا أشد عيشا منا فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليخرق لنا فيها أنهار كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب (وهو من أجداد رسول الله) فإنه كان شيخ صدق فنسألهم عما تقول أحق أم هو باطل؟ فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا منزلتك من الله وأنه بعثك رسولا كما تقول فقال لهم ما بهذا بعثت إليكم إنما جئتكم من الله بما بعثني به وقد بلغتكم ما أرسلت به فإن تقبلوا فهو حظكم في الدنيا والآخرة وأن تردوه على أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم. قالوا فإذا لم تفعل هذا لنا فخذ لنفسك، سل ربك أن يبعث معك مَلكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك وسله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزاً من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم. فقال لهم رسول الله ما أنا بفاعل وما أنا بالذي يسأل ربه هذا. وما بعثت إليكم بهذا ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً ـأو كما قالـ فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علىّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم. قالوا فأسقط السماء علينا كِسفَاً كما زعمت أن ربك إن شاء فعل فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل. فقال رسول الله ذلك إلى الله إن شاء أن يفعله بكم فعل. قالوا يا محمد فما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب فيتقدم إليك فيعلمك ما تراجعنا به ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذ لم نقبل منك ما جئتنا به، أنه قد بلغنا أنك إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن وإنا نقبل منك ما جئتنا به، أنه قد اعتذرنا إليك يا محمد، وأنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلك أو تهلكنا. وقال قائلهم نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله. وقال قائلهم لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا. فلما قالوا ذلك لرسول الله قام عنهم وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وهو ابن عمته لعاتكة بنت عبد المطلب فقال يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم سألوك لأنفسهم أموراً ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعل ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ومنزلتك من الله فلم تفعل ثم سالوك أن تعجل لهم بعض ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل، قال له فو الله لا أؤمن بك أبداً حتى تتخذ الساء سلماً ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول. وأيم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك ثم انصرف رسول الله إلى أهله حزيناً آسفاً لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه ولما رأى من مباعدتهم إياه (٣) .

إن هذه المطالب التي طلبتها قريش من النبي صلى الله عليه وسلم مطالب مدهشة تدل على شدة تعنتهم وعنادهم وعلى أنهم لا يريدون أن يؤمنوا إلا إذا شاهدوا المستحيلات ورأوا خوارق العادات ولذلك سألوا رسول الله أشياء عجيبة لا تخطر على البال بقصد تعجيزه والتشهير به فسالوه أن يغير الطبيعة فيسير الجبال ويفجر الأنهار ويحيي الموتى وأن يجعل الله له الجنان والقصور ويعطيه الكنوز. فهذه مطالب عبّاد المادة عباد الأصنام. ثم ما أسخف ما سأله عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة الذي طلب أن يتخذ النبي عليه الصلاة والسلام سلماً إلى السماء ويأتي بصك وأربعة ملائكة يشهدون معه على صحة ما يقول. ولماذا كل هذا؟ ليؤمن عبد الله بن أبي أمية هذا وقد قاسى الأنبياء صلوات الله عليهم الصعاب في سبيل هداية الكفار الذين كانوا يرمونهم بالضلال والسفاهة والجنون والسحر. قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا الله مَالَكُمْ مِنْ إِله غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُبِينٍ} فبماذا أجابوه على ذلك {قَالَ الْمَلأُ مِنْ إِنَّا لَنضرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} .

ولما دعا هود عليه السلام قومه إلى عبادة الله رموه بالسفاهة والكذب. قال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَالَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُنَ. قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} .

ولما أظهر موسى عليه السلام المعجزة فألقى العصا فانقلبت ثعبانا ادعوا أنه ساحر. قال تعالى {فَأَلْقَى عَصَاهْ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ. وَنَزَعَ يَدَهُ فَلإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ. قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ قِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} فالمتعنتون لا يؤمنون مهما رأوا من الآيات وخوارق العادات {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} فهل بعد ذلك مكابرة واصرار على الكفر؟


(١) من السطة مثل العدة والعظة من الوعد والوعظ والوسط بمعنى الخيار؟ قال تعالى {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} .
(٢) راجع سيرة ابن هشام.
(٣) راجع سيرة ابن هشام. وسيأتي ذكر اسلام عبد الله بن أبي أمية عند فتح مكة.

<<  <  ج: ص:  >  >>