للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

-لم تكف قريش بهذا كله بل أرادوا إحراجه عليه الصلاة والسلام بالأسئلة فبعثوا النضر بن الحارث (١) وعقبة بن أبي معيط غلى أحبار اليهود بالمدينة وقالوا لهما سلاهم عن محمد وصفا لهم صفته وأخبرهم بقوله فأنهم أهل الكتاب الأول وعندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء. فخرجا حتى قدما المدينة فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفا لهم أمره وأخبراهم ببعض قوله وقالوا لهم إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. فقالت لهم أحبار يهود سلوه عن ثلاثة نأمركم بهن فان أخبركم بهن فهو نبي مرسل. وان لم يفعل فالرجل متقوّل فروا فيه رأيكم. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم فانه قد كان لهم حديث عجب. وسلوه عن رجل طوُّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه. وسلوه عن الروح وما هي. فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبي وإن لم يفعل فهو رجل متقوّل. فأقبل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط حتى قدما مكة على قريش فقلا يا معشر قريش قد جئناكم بفصْل ما بينكم وبين محمد. قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء فإن أخبركم عنها فهو نبي وإن لم يفعل فالرجل متقول فروا فيه رأيكم.

فجاءوا رسول الله فقالوا يا محمد اخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول قد كانت لهم قصة عجب. وعن رجل كان طوافاً قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها. وأخبرنا عن الروح ماهي.

فقال لهم رسول الله أخبركم بما سألتم عنه غداً ولم يستثن. فأنصرفوا عنه فمكن رسول الله خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه لا يحدث إليه وحيا ولا يأتيه جبريل حتى أرجف أهل مكة وقالوا وعدنا محمد غداً واليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه فشق على رسول الله تأخير الوحي وما يتكلم به أهل مكة. ثم جاءه جبريل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته اياه على حزنه عليهم وخبر ما سألوه عنه. قال المفسرون إن القوم لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن المسائل الثلاثة قال عليه السلام أجيبكم عنها غداً ولم يقل إن شاء الله فاحتبس الوحي خمسة عشر يوما ثم نزل قوله تعالى {وَلاَتَقُولَنَّ لِشيءٍ إِنِّ فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الله} والسبب في أنه لا بد من ذكر هذا القول إن شاء الله هو أن الإنسان إذا قال سأفعل الفعل الفلاني غداً لم يبعد أن يموت قبل مجيء الغد ولم يبعد أيضا لو بقي حياً أن يعوقه عن ذلك الفعل شيء من العوائق فإذا كان لم يقل إن شاء الله صار كاذبا في ذلك الوعد والكذب منفر وذلك لا يليق بالأنبياء عليهم السلام.

جاء جبريل من الله عز وجل بخبر ما سألوه عنه، فقال تعالى في شأن الفتية {أَم حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عجَبَا} وقال فيما سألوه من أمر الرجل الطواف {وَيَسْأَلُنَكَ عَنْ ذِى الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ سَبَباً} إلى آخر القصة.

وقال تعالى فيما سألوه عنه من أمر الروح {وَيَسْأَلُنَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} .

وقد أيد هذه الرواية الدكتور ولفنسون الأسرائيلي مدس اللغات السامية بالجامعة المصرية ودار العلوم فقال في رسالته (تاريخ اليهود في بلاد العرب) صفحة ٩٨ ما يأتي: "وينبغي بعض المستشرفين صحة هذة القصة الخطيرة دون أن يأتوا بدليل نطمئن اليه. والحق أن من العسر أنكار رواية تاريخية كانت سببا في نزول سورة الكهف والأيات الخاصة بالروح وذي القرنين. وعندنا دليل يحملنا على الاعتقاد بأن هذة الرواية من المحتمل أن تكون واقعية (٢) وهي أن في التلمود قصة مشهورة تشبه قصة أهل الكهف أخذ أحبار اليهود الأسئلة التى وجهوها للرسول بواسطة وفد بني قريش. ويؤيد هذة القصة ما ذهبنا اليه من أنه لم يكون بمكة أحد من اليهود إذ لو وجد منهم في مكة ما أوفد قريش وفدهم إلى المدينة ليسألوا أحبار اليهود عن شأن النبي صلى الله عليه وسلم وإذا وجد منهم أحد فلا بد أن يكون غير عالم " وأنزل الله عليه صلى الله عليه وسلم فيما سأله قومه لأنفسهم من تيسير الجبال وتقطيع الأرض وبعث من مضى من آبائهم من الموتى {وَلَوْ أَنَّ قُرْ سُيِّرَتْ بهِ الْجِبَالُ أَقُطِّعَتْ بهِ المَوْتَى بَلْ لله الأَمْرُجَمِيعاً} أي لا أصنع من ذلك لا ما شئت. وأنزل عليه في قوله خذ لنفسك ما سألوه أن يأخذ لنفسه أن يجعل له جناناً وقصوراً وكنوزاً ويبعث ملكا يصدقه بما يقول ويرد عنه {وَقَالُوا ما لِهَذَا الرَّ سُولِ يَأْ كُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي في الأَسْوَاقِ لَولَا أُنْزِلَ إِليْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ معَهُ نَذِيرَاً أَوْ يُلْقَى إليْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكْذونَ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إلا رّجُلاً مَسْحُوراً. اُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبيِلاً. تَبَارَكَ الَّذِي إنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ} أى تمشي في الأسواق وتلتمس المعاش {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً} وأنزل الله عليه فيما قال عبد الله بن أبي أمية {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَىَّ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الَأرْضِ يَنْبُوعاً أو تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلاَلَهَا تفْجيراً أَوْ تُسْقِطَ السّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسفَاً أَوْ تَأْتِىَ بِالله وَالمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ. قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً} . وأنزل عليه في قولهم انا قد بلغنا إنك إنما يعلمك رجل باليمامة يقال له الرحمن ولن نؤمن به أبداً {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قّدْ خَلَت مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتتْلُوَ عَلَيْهِمُ الّذِي أَوْحَيْنَا إِليْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بَالرَحْمَنِ قُلْ هُوَرَبِّي لاَ إِلهَ إلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} وأنزل عليه فيما قال أبو جهل وما هم به {أَرَأَيْتَ الذَّي يَنْهَي عَبدْاً إِذَا صَلّى. أَرَأَيْتَ إِنْ الله يَرَى كَلاَّ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى. أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلّى. أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ الله يَرَى كَلاَّ لَئَنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةً خَاطِئِةٍ فَلْيدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ. كَلاَّ لاَ تُطِعْهُوَأَسْجُدْ وَأَقْتَربْ}

وأنزل الله عليه فيما عرضوا عليه من أموالهم. {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِى إِلاَّ عَلَى الله وَهُوَ عَلَى كُلْ شَئ ٍشَهِيد} .


(١) صحة نسبة النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بخلاف ما رواه ابن إسحاق ثم ابن منده، وأبو نعيم عن ابن إسحاق من أنه كلده بن علقمة، وأجمع أهل السير على أنه قتل يوم بدر كافراً، قتله علي بن أبي طالب.
(٢) قوله من المحتمل أن تكون واقعية - تعبير ضعيف لأنه يرد على المستشرقين الذين أنكروا هذه الرواية بلا بينة ويثبتها بأن لها شبها في التلمود فكان الأجدر به أن يقول: "إنها واقعية" ولا بد أن نذكر أن الأستاذ مرجوليث أنكر صدور هذه الأسئلة من اليهود وعدا ذلك فقد أخطأ وقال "الاسكندر الأكبر" بدلاً من ذي القرنين وفرق بين الاثنين فالأول رومي والثاني يمني كما أثبت ذلك المقريزي وغيره. واسم ذي القرنين الصعب بن ذي مراثد بن الحارث الرائش بن الهمال ذي سدد.

<<  <  ج: ص:  >  >>