للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

-كان عبد المطلب نذر حين لقي من قريش العنت (١) في حفر بئر زمزم لئن ولد له عشرة نفر وبلغوا معه حتى يمنعونه لينحرن أحدهم عند الكعبة لله تعالى. وقد ارتاب بعضهم في حكاية هذا النذر لكنا لا نرى مندوحة من ذكرها لأنها وردت في أمهات كتب التاريخ التي استقينا منها، فقد رواها ابن إسحاق ونقلها الطبري وابن الأثير وطبقات ابن سعد.

لما بلغ أولاد عبد المطلب عشرة وعرف أنهم سيمنعونه أخبرهم بنذره فأطاعوه وقالوا كيف نصنع؟ قال يأخذ كل رجل منكم قدحا ثم يكتب فيه اسمه. ففعلوا وأتوه بالأقداح فدخلوا على هبل في جوف الكعبة وكان أعظم أصنامهم وهو على بئر يجمع فيه ما يهدى إلى الكعبة، فقال عبد المطلب لصاحب القداح اظرب على بني هؤلاء بقداحهم هذه وأخبره بنذره الذي نذر وكان عبد الله أصغر بني أبيه وأحبهم أليه، فلما أخذ صاحب القداح يضرب قام عبد المطلب يدعو الله تعالى، ثم طرب صاحب القداح فخرج قدح عبد الله فأخذ عبد المطلب بيده ثم أقبل إلى (أساف ونائلة) وهما الصنمان اللذان ينحر الناس عندهما. فقامت قريش من أنديتها فقالوا ماذا تريد أن تصنع؟ قال أذبحه. فقالت قريش وبنوه والله لا ندعك تذبحه أبدا حتى تعذر فيه، ولئن فعلت هذا لا يزال الرجل منا يأتي بابنه حتى يذبحه. فقال له المغيرة ابن عبد الله بن عمرو بن المخزوم: والله لا تذبحه حتى تعذر فيه فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه. وقالت له قريش وبنوه لا تفعل وانطلق إلى كاهنة بالحجر فسلها فإن أمرتك بذبحه ذبحته وأن أمرتك بمالك وله فيه فرج قبلته. فانطلقوا حتى أتوها بخيبر فقص عليها عبد المطلب خبره فقالت لهم ارجعوا اليوم حتى يأتيني تابعي فأسأله، فرجعوا عنها ثم غدوا عليها فقالت نعم قد جاءني الخبر فكم دية الرجل عندكم؟ قالوا عشرة من الإبل وكانت كذلك. قالت ارجعوا إلى بلادكم فزيدوا في الإبل عشرا ثم اضربوا أيضا حتى يرضى ربكم وإن خرجت على الإبل فانحروها فقد رضي ربكم ونجا صاحبكم.

فخرجوا حتى أتوا مكة ثم قربوا عبد الله وعشرا من الإبل فخرجت القداح على عبد الله، فزادوا عشرا فخرجت القداح على عبد الله فما برحوا يزيدوا عشرا وتخرج القداح على عبد الله حتى بلغت الإبل مائة ثم ضربوا فخرجت القداح على الإبل. فقال من حضر قد رضي ربك يا عبد المطلب. فقال عبد المطلب لا والله حتى أضرب ثلاث مرات فضربوا ثلاثا فخرجت القداح على الإبل فنحرت ثم تركت لا يصد عنها إنسان ولا سبع.

إن خروج القداح على عبد الله في كل مرة حتى بلغت الإبل مئة من غرائب الصدف ولولا معارضة قرش وبنيه ومشورة الكاهنة لذهب عبد الله فربانا لنذر عبد المطلب، ولكن شاء الله سبحانه وتعالى أن يحفظ أبا محمد حتى يظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قد التجأ عبد المطلب إلى هذا النذر لما عارضه عدي بن نوفل بن عبد مناف في حفر زمزم وأذاه وقال له: "اعبد المطلب أتستطيل علينا وأنت فذ لا ولد لك؟ " فقال "أبا لقلة تعيرني فو الله لئن أتاني الله عشرة من الولد ذكورا لأنحرن أحدهم عند الكعبة" وقيل سفه عليه وعلى ابنه ناس من قريش ونازعوهما وقاتلوهما فاشتد بذلك بلواه وكان معه ولده الحارث ولم يكن له سواه فنذر ذلك النذر الذي ذكرناه.

انصرف عبد المطلب بعد أن نحر الإبل آخذا بيد ابنه عبد المطلب فمر به على امرأة من بني أسد بن عبد العزى بن قصي وهي عند الكعبة فقالت له حين نظرت إلى وجهه أين تذهب يا عبد الله؟ قال مع أبي، قالت له مثل الإبل التي نحرت عنك وقع عليَّ الآن. فأبى وقال إن معي أبي لا أستطيع خلافه ولا فراقه وكان عبد الله أحسن رجل رؤى في قريش، وكان ذا عفة وسماحة. وكانت ولادة عبد الله نحو سنة ٥٤٥ م.


(١) العنت: الوقوع في أمر شاق.

<<  <  ج: ص:  >  >>