للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

-كعب بن الأشرف اليهودي كان أبوه عربياً من بني نبهان. أصاب دماً في الجاهلية فأتى المدينة فحالف بني النضير فشرف فيهم وتزوج عقيلة بنت أبي الحقيق فولدت له كعباً. وكان طويلا جسيما ذا بطن وهامة، شاعراً مجيداً، ساد يهود الحجاز بكثرة ماله فكان أحبار يهود ويصلهم. وكان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشعاره ويحرض كفار قريش على قتاله. وكان من عداوته أنه لما أصيب أصحاب بدر قدم زيد بن حارثة إلى أهل السافلة وعبد الله بن رواحة إلى أهل العالية بشيرين بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بالمدينة من المسلمين بفتح الله عز وجل عليه وقتل من قتل وأسر من أسر من المشركين كبر عليه ذلك وقال: أحق هذا؟ أترون أن محمداً قتل هؤلاء الذين سمى هذان الرجلان (البشيران) وهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء لبطن الأرض خير من ظهرها. فلما تيقن الخبر ورأى الأسرى خرج إلى قريش يبكي قتلاهم ويحرض بأشعاره على قتال النبي صلى الله عليه وسلم وكان ينتقل من قوم إلى قوم وأخباره تصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيذكره لحسان فيهجوه، ثم رجع إلى المدينة فتغزل في نساء المسلمين وذكرهن بسوء وأبى أن ينزع عن أذاه وكان يرمي إلى احداث ثورة في المدينة ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: من لي باب الأشرف؟ فقال محمد بن مسلمة أخو بني عبد الأشهل: أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله. قال فافعل إن قدرت على ذلك، فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثا لا يأكل ولا يشرب إلا ما يعلق به نفسه فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه فقال له: لم تركت الطعام والشراب؟ فقال: يا رسول الله قلت لك قولا لا أدري أأفين لك به أم لا؟ قال إنما عليك الجهد.

ثم أتى أبا نائلة وعباد بن بشر والحارث بن أوس وأبا عبس بن جبر وأخبرهم بما وعد به رسول الله من قتل ابن الأشرف، فأجابوه وقالوا كنا نقتله ثم أتوا رسول الله وقالوا يا رسول الله لا بد لنا أن نقول. قال قولوا ما بدا لكم فأنتم في حل من ذلك. ومعنى ذلك أنهم استأذنوه أن يقولوا قولا غير مطابق للواقع يسر كعباً ليتوصلوا به إلى قتله وكان لا بد لهم من التماس الحيلة لأنه كان يقيم في حصن منيع خارج المدينة فأباح لهم الكذب لأنه من خدع الحرب، فجاء محمد بن مسلمة كعب بن الاشرف فقال إن هذا الرجل يعني النبي صلى الله عليه وسلم قد سألنا صدقة ونحن ما نجد ما نأكله وأنه قد عنانا وأني قد أتيتك استسلفك. قال كعب وأيضا والله لتملنه. قال إنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه وقد أردنا أن تسلفنا وسقا أو وسقين. قال ألم يأن لكم أن تعرفوا ما أنتم عليه من الباطل؟ ثم أجابهم بأنه يسلفهم وقال ارهنوني قال أي شيء تريد. قال أرهنوني نساءكم. قالوا كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال فارهنوني ابناءكم، قالوا وكيف نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم فيقال رهن وسق أو وسقين؟ هذا عار علينا ولكن نرهنك اللامة يعني السلاح مع علمك بحاجتنا إليه قال نعم وإنما قالوا ذلك لئلا ينكر عليهم مجيئهم إليه بالسالح فواعده أن يأتيه وجاءه أيضا أبو نائلة وقال له ويحك يا ابن الأشرف أني قد جئتك لحاجة أريد أن أذكرها لك فأكتم عني. فقال أفعل. قال كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء. عادتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة وقطعت عنا السبل حتى جاع العيال وجهدت الأنفس وأصبحنا قد جهدنا وجهد علينا. فقال كعب انا ابن الأشرف أما والله لقد كنت أخبرك يا ابن سلامة أن الأم سيصير إلى ما أقول. فقال أني أردت أن تبيعنا طعاما ونرهنك ونوثق لك وتحسن في ذلك وإن معي أصحابا على مثل رأيي وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم وتحسن إليهم ونرهنك من الحلقة ما فيه وفاء. فقال إن في الحلقة لوفاء وكان أبو نائلة أخاً لكعب من الرضاعة ومحمد بن مسلمة ابن أخيه من الرضاعى فجاءه محمد بن مسلمة وأبو نائلة ومعهما عباد بن بشر والحارث بن أوس بن معاذ وأبو عبس بن جبر وكلهم من الأوس ولما فارقوا النبي صلى الله عليه وسلم مشى معهم إلى بقيع الغرقد ثم وجههم وقال انطلقوا على اسم الله أعنهم ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى بيته وكان ذلك بالليل وكانت الليلة مقمرة. فاقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه وكان حديث عهد بعرس فناداه أبو نائلة ثم بقية أصحابه فعرفهم ووثب في ملحفته فأخذته امرأته بناحيتها وقالت إنك امرؤ مُحارب وإن أصحاب الحروب لا ينزلون في مثل هذه الساعة قال لها إنه أبو نائلة لو وجدني نائما ما أيقظني فقالت والله أني لأعرف في صوته الشر فقال لها كعب لو يدعي الفتى لطعنة لأجاب فنزل فتحدث معهم ساعة وتحدثوا معه ثم قالوا له هل لك با ابن الأشرف أن تمشي إلى شعب العجوز (١) تنحدث به بقية ليلتنا فقال إن شئتم. فخرجوا يتماشون فمشوا ساعة ثم أن أبا نائلة أدخل يده في بطنه ثم شم يده وقال ما رأيت كالليلة طيباً أعطر قط ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها حتى اطمأن ثم مشى ساعى ثم عاد لمثلها وأمسكه من شعره وقال اضربوا عدو الله فضربوه بأسيافهم فوقع على الأرض فجزوا رأسه فحملوه في مخلاة كانت معهم إلى رسول الله وكان ذلك في السنة الثالثة من الهجرة شهر ربيع الأول (يولية سنة ٦٢٤ م) .

هذه الحادثة قد أوقعت الرعب في نفوس اليهود جميعا فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه فلم يخرج من عظمائهم أحد من شدة خوفهم.


(١) اسم موضع كان قريبا منهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>