للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

-النضير اسم قبيلة من اليهود الذين كانوا بالمدينة وكانوا هم وقريضة نازلين بظاهر المدينة في حدائق وآطام لهم (١) .

قال غير واحد من أهل السير لما قدم اليهود المدينة نزلوا السافلة فاستوخموها فأتوا العالية فنزل بنو النضير بُطحان ونزل بنو قريظة مهزوراً وهما واديان يهبطان من حرة هناك تنصب منها مياه عذبة فاتخذ بنو النضير الحدائق والآطام وأقاموا بها (٢) وكان بينهم وبين المدينة نحو ميلين أو ثلاثة وكانوا يمتلكون نخيلا بجوار المدينة.

كانت هذه الغزوة في شهر ربيع الأول سنة أربع على رأس سبعة وثلاثين شهرا من الهجرة (يونية سنة ٦٢٥ م) .

خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السبت فصلى في مسجد قُباء ومعه نفر من أصحابه المهاجرين والأنصار. ثم أتى بني النضير فكلمهم أن يعينوه في دِيةَ الكلبيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضَّمري. فقالوا نفعل يا أبا القاسم ما أحببت. وخلا بعضهم ببعض وهموا بالغدر به. وقال عمر بن جحاش بن كعب بن بَسيل النضَرى أنا أظهر على البيت فأطرح عليه صخرة. فقال سلام بن مشكم لا تفعلوا والله ليُخبرن بما هممتم به وأنه لقض للعهد الذي بيننا وبينه وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر بما هموا فنهض سريعاً كأنه يريد حاجة فتوجه إلى المدينة ولحقه أصحابه.

ثم بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحمد بن مَسلمة أن اخرجوا من بلدي فلا تساكنوني بها وقد هممتم بما هممتم به من الغدر وقد أجلتكم عشراً فمن رُئى بعد ذلك ضربت عنقه. فمكثوا على ذلك أياماً يتجهزون وأرسلوا إلى ظَهرٍ لهم بذي الجَدر وتكاروا من ناس من أشْجَع ابلا فأرسل إليهم ابن أُبي لا تخرجوا من دياركم وأقيموا في حصنكم فإن معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب يدخلون معكم حصنكم فيموتون عن آخرهم وتمدكم قريظة وحُلفاؤكم من غَطَفَان فطمع حُيىٌّ فيما قال ابن أبيّ فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انا لانخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك. فأظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير وكبَّر المسلمون لتكبيره. وقال حاربت يهود. فسار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه فصلى العصر بفضاء بني النضير وعلي رضي الله عنه يحمل رايته واستخلف على المدينة ابن أبي مكتوم. فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاموا على حصونهم ومعهم النبل والحجارة واعتزلتهم قريظة فلم يُعنهم وخذلهم ابن أبيّ وحلفاؤهم من غطفان فأيسوا من نصرهم. فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطع نخلهم. فقالوا نخرج عن بلادك، فقال لا أقبله اليوم. ثم قال لهم اخرجوا منها ولكم دماؤكم وماحملت الإبل الا الحلقة (٣) فرضوا بذلك نزلوا عليه. وكان حصارهم خمسة عشر يوماً.

احتمل بنو النضير من أموالهم ما استقلت به الإبل فكان الرحل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به فخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام. فكان من سار من أشرافهم إلى خيبر سلام بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وحيى بن أخطب فلما نزلوها دان لهم أهلها.

لما أيقن بنو النضير بالجلاء حسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم فجعلوا يخربونها من داخل وقد كانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم مما يستحسنونه أو الباب فيهدمون بيوتهم وينزعونها ويحملونها على الإبل.

لكن الدكتور اسرائيل ولفنسون يقول في رسالته: (تاريخ اليهود في بلاد العرب) "إن هدم البيوت لم يكن القصد منه التخريب وأخذ الأخشاب بل أن هدم نجاف البيوت يتعلق بعقيدة تلمودية معروفة ويه أن كل يهودي يعلق على نجاف بيته صحيفة تشتمل على وصية موسى لبني اسرائيل أن يحتفظوا بالإيمان باله واحد ولا يبدلوه ولو عذبوا وقتلوا فاليهود حين ينزحون من منازلهم يأخذونها معهم وهي عادة متبعة عند اليهود إلى يومنا هذا. قال ويظهر أن يهود بلاد العرب كانوا يضعون تلك الصحيفة في داخل النجاف خوفا من اتلاف الهواء أو مس الأيدي فلما رحلوا عن ديارهم هدموا نجاف البيوت وأخذوها".

وانا نسلم إن هذه عادة اليهود ولا ننازعه في أنهم أخذوا تلك الصحائف المقدسة مع ما أخذوا لكن أخذ الصحائف فقط لا يستدعي هدم البيوت وإلا كان الواحد منهم إذا انتقل من بيت إلى أخر هدم البيت الأول لاستخراج صحيفته وهذا محال وعبارة ابن اسحاق صريحة في أن الرجل منهم كان يهدم بيته عن نجاف بابه ويضعه على ظهر بعيره فينطلق. والنجاف الذي يقال له الدوارة وهو الذي يستقبل الباب من أعلى الأسْكُفَّة. وفي السيرة الحلبية صاروا ينقضون العمد والسقوف وينزعون الخشب حتى الأوتاد وينقضون الجدران حتى لا يسكنها المسلمون حسداً وبغضاً.

قال ابن اسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث أنهم استقلوا بالنساء والأبناء والأموال معهم الدفوف والمزامير والقيان يعزفن خلفهم وأن فيهم لأم عمرو صاحبة عروة بن الورد العبسي التي ابتاعوا منه.

وكانت إحدى نساء بني غفار بزهاء وفخر ما رؤى مثله من حي من الناس في زمانهم.

وقد حملوا أمتعتهم على ستمائة بعير وحزن المنافقون عليهم حزنا شديداً لكونهم أخزانهم وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تركوه من الأموال والدروع والسلاح. ووجد خمسين درعا وخمسين بيضة وهي الخوذة وثلاثمائة وأربعين سيفاً. فكان أموال بن النضير مختاراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان ينفق منها على أهله ويدخر قوت سنة من الشعير والتمر لأزواحه وبني عبد المطلب وما فضل جعله في السلاح والكراع (٤) هذا ما ذهب إليه الامام أبو حنيفة رضي الله عنه.

وذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أنه صلى الله عليه وسلم قسمها بين المهاجرين فيرفع بذلك مؤنتهم عن الأنصار، وهذا يتفق مع ما رواه ابن اسحاق فإن قال: وخلوا الأموال لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يضعها حيث يشاء فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المهاجرين الأولين دون الأنصار إلا أن سهل بن حنيف وأبا دجانة سماك بن خرشة ذكرا فقراً فأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولم يسلم من بني النضير إلى رجلان: يامين بن عمير بن كعب بن عمرو بن جحاش، وأبو سعد بن وهب أسلما على أموالهما فأحرزاها.

وقتل في هذه الغزوة عزوك. وكان شجاعاً رامياً من بني النضير قتله علي رضي الله عنه. ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا دجانة وسهل بن حنيف في عشرة ليدركوا الذين فروا من علي رضي الله عنه فقتلوهم وطرحوا رءوسهم في بعض الآبار.

قال ابن اسحاق ونزل في أمر بني النضير سورة الحشر بأسرها يذكر فيها ما أصابهم الله به من نقمته وما سلط عليه به رسول الله صلى الله عليه وسلم وما عمل به فيهم. وفي البخاري عن سعيد بن جبير قال قلت لأبن عباس رضي الله عنهما سورة الحشر قل سورة النضير.

(ملحوظة) لم أعثر في المراجع التي اطلعت عليها على عدد بني النضير الذين أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة.


(١) آطام: حصون، مفردها أطم.
(٢) راجع معجم البلدان.
(٣) وهي الدروع والسلاح.
(٤) الخيل.

<<  <  ج: ص:  >  >>