للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

-كان حديث الأفك في غزوة بني المصطلق ولا خلاف في ذلك ولكن علماء السير اختلفوا هل قصة آية التيمم أسبق أو قصة الأفكز وخلاصة حديث الأفك ان عائشة رضي الله عنها بعد غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحين آذنوا بالرحيل ابتعدت عن الجيش لقضاء شأنها، وبينما هي مقبلة إلى رحلها وجدت أن عقدها قد انقطع فعادت بتحث عنه فوجدته. لكنها لما رجعت وجدت أن الجيش قد رجل فجلست وغلبها النوم فنامت فرآها صفوان بن المعطّل السلمي وكان وراء الجيش فاستيقظت باسترجاعه فأناخ راحلته وأركبها وانطلق حتى أتى الجيش في نحر الظهيرة وهم نزول فأشاع عبد الله بن أبي في العسكر حديث الأفك وانتشر بعد دخولهم المدينة لشدة عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومرضت عائشة رضي الله عنها شهراً واستاء رسول الله صلى الله عليه وسلم استياء شديداً ثم ذهبت عائشة إلى بيت أبيها. وقد علمت بحديث الناس. وقالت لأمها ماذا يتحدث الناس؟ فقالت يا بنية هوني عليك فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها لها ضرائر أثر الا أكثرن عليها. فبكت بكاء شديدا مما يتحدث الناس. وكانت لا تنام الليل من شدة الحزن والبكاء.

قلق رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد قلقه واستبطأ الحي فلم ير غير استشارة أصحابه فدعا عليَّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد واستشارهما في فراق أهله. فأما اسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يعلم من براءة أهله. وأما علي رضي الله عنه فقال يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير. وسل الجارية التي كانت تخدم عائشة تصدقت فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة وسألها فأقسمت أنها لم تر عليها شيئا. وكانت عائشة رضي الله عنها ترجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئها الله بها. وما كانت تظن ان الله تعالى منزلة في شأنها وحياً. وبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حيرة إذ نزل الوحي عليه ببراءة عائشة رضي الله عنها. قال تعالى {إنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لاَ تَحْسِبُوهُ شَرّاً لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مَنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (١) .

وعصبة الافك حسان بن ثابت رضي الله عنه ومِسْطَح بن أثاثة وحمنة بنت جحش. وعبد الله بن أبيّ المنافق. لما نزلَتْ براءة عائشة جلدهم رسول الله ثمانين جلدة الا عبد الله فإنه لم يجلد. وفي ذلك قول عبد الله بن رواحة:

لقد ذاق حسان الذي هو أهله ... وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح

تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهم ... وسخطه ذي العرش الكريم فأبرحوا

قال السهيلي إن من نسب عائشة رضي الله عنها إلى الزنا كان كافراً لأن ذلك تكذيب للنصوص القرآنية ومكذبها كافر.

وقال عروة ما رأيت أحداً أعلم بفقة ولا بطب ولا بشعر من عائشة ولو لم يكن لعائشة من الفضائل الا قصة الأفك لكفى بها فضلا وعلو مجد فإنها نزل فيها من القرآن ما يتلى إلى يوم القيامة.

جاء في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفراً أقرع بين أزواجه فأيتهنّ خرج سهمها خرج بها معه. فأقرع بيننا في غزاة غزاها فخرج سهمي فخرجت معه بعد ما أنزل الحجاب فأنا أحمل في هودج وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل دنونا من المدينة فآذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدري فإذا عِقْدٌ لي من جزَع (٢) ظفَار (٣) قد انقطع فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه فأقبل الذين يُرَحِّلون لي (٤) فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يثقلن ولم يغشهم اللحم (٥) وإنما يأكلن العُلْقَة من الطعام (٦) فلم يستنكر القوم حين رفعوه ثقل الهودج فاحتملوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش فجئت منزلهم وليس فيه أحد فأممت الموضع الذي كنت فيه وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إليّ. فبينا أنا جالسة غلبتني عيناي فنمت وكان صفوان بن المعَطِّل السُّلَمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني وكان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين أناخ راحلته فوطئ يدها. فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك من هلك وكان الذي تولى الإفك عبد اللهبن أبيّ ابن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت بها شهراً والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ويريبني في وجعي أني لا أرى من النبي صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أمرض إنما يدخل فيسلم كيف تِيكم لا أشعر بشيء من ذلك حتى نقهت فخرجت أنا وأم مِسْطح قِبَل المناصع (٧) مُتَبَرَّرنا (٨) لا نخرج إلا ليلا إلى ليل وذلك قبل أن تنخذ الكنُف قريباً من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأول في البرية أو في التنزه فأقبلت أنا وأم مسطح بنت أبي رُهم نمشى فَعَثَرَتْ في مِرطها (٩) فقالت تعس مسطح فقلت لها بئسما قلت أتسبين رجلا شهد بدرا. فقالت ياهَنْتَاهُ (١٠) ألم تسمعي ما قالوا فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضاً على مرضي. فلما رجعت إلى بيتي دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم. فقال كيف تِيكُمْ. فقلت ائذَن لي إلى أبَوَيّ. قالت وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قِبلهما. فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيتُ أبويّ. فقلت لأمي ما يتحدث الناس به؟ فقالت يا بنية هوِّني على نفسك الشأن فوالله لقلما كانت امرأة قط وضئة عند رجل يحبها ولها ضرائر ألا أكثرن عليها. فقلت سبحان الله ولقد تحدث الناس بهذا؟ قالت فبت تلك الليلة حتى أصبحتُ لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم. ثم أصبحت فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ بن أبي طالب. وأسامة بن زيد حين اسبلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله. أما أسامة فأشار عليه بالذي يعلم في نفسه من الود لهم. فقال أسامة أهلك يا رسول الله ولا نعلم الاخيراً. وأما عليّ فقال يا رسول الله لي يضيّق الله عليك والنساء سواها كثير وسل الجارية تُصدقك فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بَرِيرَةَ. فقال يا بريرة هل رأيت فيها شيئا يريبك؟ فقالت بريرة لا والذي بعثك بالحق إن رأيت منا أمراً أغمصه (١١) عليها قط أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام على العجين فتأتي الدَّاجن فتأكله. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سَلُول. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي فوالله ما علمت على أهلي الاخيراً. وقد ذكروا رجلا ما علمت عليه الاخيراً. وما كان يدخل على أهلي الا معي. فقام سعيد بن معاذ فقال يا رسول الله انا والله أعذِرُكَ منه ان كان من الأوس ضربنا عنقة. وإن كان من اخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك. فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلا صالحائن ولكن احتملته الحمية، فقال كذبت لعمر الله والله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فثار الحيّان الأوس والخزرج حتى هموا ورسول الله على المنبر فخفضهم حتى سكتوا وسكت، وبكيت يومي لا يرقأ لي دمع ولاأكتحل بنوم فأصبح عندي أبواي. وقد بكين ليلتين ويوماً حتى أظن أن البكاء فالق كبدي. قالت فبينما هما جالسان وأنا أبكي إذ استأذنت امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي فبينما نحن كذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس ولم يجلس عندي من يوم قيل لي ما قيل قبلها. وقد مكث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء. قالت فتشهد ثم قال: يا عائشة لقد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه. فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قَلص دَمعي حتى ما أحس منه قطرة، وقلت لأبي أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت لأمي أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال. قالت والله ما أدري ماأقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالت وأنا جارية حديثة السن لا اقرأ كثيراً من القرآن. فقلت: والله لقد علمت أنكم سمعتم ما يتحدث به الناس ووقر في أنفسكم وصدقتم به ولئن قلت لكم إني بريئة، والله يعلم إني لبريئة لا تصدقوني ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم إني لبريئة لتصدقني، والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف إذ قال {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَالله الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} ثم تحولت على فراشي وأنا أرجو أن يبرئني الله. ولكن والله ما ظننت أن ينزل الله في شأني وحياً يُتلى ولأنا أحقر في نفسي من أن يتكلم بالقرآن في أمري ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها، فوالله ما رام مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل الله عليه الوحي. فأخذه ماكان يأخذه من البرحاء حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان (١٢) من العرق في يوم شات فلما سُرَّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي: يا عائشة أحمدي الله فقد برأك فقالت لي أمي: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد الا الله فأنزل الله عز وجل {إنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} الآيات. فلما أنزل الله عز وجل هذا في برائتي قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه والله لاأنفق على مسطح شيئا أبداً بعد ما قال لعائشة. فأنزل الله عز وجل {وَلاَ يَأْتَلِ أولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أنْ يُؤْتُوا أولِى الْقُرْبى} إلى قوله {والله غَفُورٌ رَحِيمٌ} فقال أبو بكر. بلى والله اني لا أحب أن يغفر الله لي. فرجع إلى مِسطح الذي كان يُجرى عليه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمرى فقال يا زينب ما علمتِ ما رأيتِ؟ فقالت يا رسول الله أحمي سمعي وبصري. والله ما علمت عليها إلا خيراً. قالت وهي التي كانت تُساميني فعصمها اله بالورع اهـ.


(١) سورة النور.
(٢) هو خرز معروف في سواده بياض.
(٣) مدينة باليمن.
(٤) أي يضعون الرحل على بعيري.
(٥) وفي رواية: والنساء يومئذ لم يهبلهن اللحم، وهلبه اللحم تهبيلا إذا كثر عليه وركب بعضه بعضاً. يقال رجل مهبل.
(٦) القليل من الطعام.
(٧) موضع خارج المدينة.
(٨) موضع قضاء حاجتنا.
(٩) كسائها.
(١٠) أي يا هذه.
(١١) أي أعيبه.
(١٢) اللؤلؤ.

<<  <  ج: ص:  >  >>