للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

-نقل النووي عن العلماء "أن المصلحة المترتبة على هذا الصلح هي ما ظهر من ثمراته الباهرة وفوائده المتظاهرت التي عملها النبي صلى الله عليه وسلم وخفيت عليهم فحمله ذلك على موافقتهم وذلك أنهم قبل الصلح لم يكونوا يختلطون بالمسلمين ولا تظهر عندهم أمور النبي صلى الله عليه وسلم كما هي ولا يجتمعون بمن يعلمهم بها مفصلة. فلما حصل الصلح اختلطوا وجاءوا إلى المدينة وجاء المسلمون إلى مكة وخلوا بأهلهم وأصدقائهم وغيرهم ممن يستنصحونهم وسمعوا منهم أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته الظاهرة وأعلام نبوته المتظاهرة وحسن سيرته وجميل طريقته وعاينوا بأنفسهم كثيراً من ذلك فمالت أنفسهم إلى الإيمان حتى بادر خلق منهم إلى الإسلام قبل فتح مكة فأسلموا فيما بين صلح الحديبية وفتح مكة كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وغيرهما وازداد الذين لم يسلموا ميلا إلى الإسلام. فلما كان يوم الفتح أسلموا كلهم لما قد تم لهم من الميل".

وأنا نضيف إلى ذلك ان مزايا هذا الصلح التي غابت عن أصحابه صلى الله عليه وسلم ولم تخف عنه عظيمة جدا فقد اعترف له صلى الله عليه وسلم في هذه المعاهدة بأنه قوة مستقلة نظير قريس وإن الهدنة توجد للمسلمين فرصة لنشر دينهم في جزيرة العرب بلا معارضة ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان واثقا من جهة أخرى من اخلاص أصحابه وحبهم له وشدة تمسكم بالعقيدة الاسلامية فلا ينضمون إلى قريش بينما كان يتوقع اسلام بعض القبائل وفوق ذلك فقد سمح له زيارة مكة لتأدية الفريضة الدينية مع المسلمين في العام القابل والأقامة بها مدة ثلاثة أيام من غير أن يتعرضوا لهم بسوء وبسبب ماجاء في هذه المعاهدة من المزايا ازداد عدد المسلمين زيادة عظيمة فبعد أن كان عدد جيش الحديبية (١٤٠٠) بلغ عددهم عند فتح مكة بعد عامين (١٠.٠٠٠) وفي رائرة المعارف الاسلامية "إن محمداً صلى الله عليه وسلم فاز في صلح الحديبية على قريش فوزا سياسياً باهراً (١) ".

لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلح قام إلى هديه فنحره ثم جلس فحلق رأسه وقيل أن الذي حلقه في ذلك اليوم خراش بن أمية بن الفضل الخزاعي. فلما رأى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نحر وحلق تواثبوا ينحرون ويحلقون. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحم الله المحلقين. قالوا والمقصرين يا رسول الله؟ قال يرحم الله المحلقين. قالوا والمقصرين يا رسول الله؟ قال يرحم الله المحلقين. قالوا يرحم الله المحلقين. قالوا والمقصرين يا رسول الله؟ قال والمقصرين فقالوا ظاهرت الترحيم للمحلقين دون المقصرين؟ قال لم يشكوا.

واهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في هديه جملا لأبي جهل في رأسه برة من فضة يغيظ بذلك المشركين وكانت بدنة صلى الله عليه وسلم التي نحرها بالحديبية ٧٠ وكانت اقامته صلى الله عليه وسلم بالحديبية نحو عشرين يوماً.

قال الزهري في حديثه (ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجهه ذلك قافلا حتى إذا كان بين مكة والمدينة نزلت سورة الفتح {انَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكِ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهُدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقيماً} ثم كانت القصة فيه وفي أصحابه حتى انتهى إلى ذكرالبيعة فقال تعالى {إن الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنَّمَا يُبَايِعُنَ الله يَدُ الله فَوْقَ أيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنُ أوْفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ الله فَسَيٌؤْتِيهِ أجْراً عَظِيماً} .

واختلف الناس في المراد من الفتح فقال ابن عباس وأنس والبراء بن عازب رضي الله عنهم: الفتح هنا فتح الحديبية. وقيل الفتح المراد هو فتح مكة فنزلت السورة عند مرجعه من الحديبية عدة له بفتحها وعبر فيه بالماضي لتحقق وقوعه.

ونرجح إن الفتح المقصود هو فتح الحديبية لأن هذه الآيات قد نزلت بعد انصرافه منها وهذا الفتح مقدمة لفتح مكة وقد روى الأمام أحمد وأبو داود والحاكم من حديث مجمع بن جارية الأنصاري الأوسي: قال شهدنا الحديبية فلما انصرفنا عنها وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند كراع الغميم (٢) . وقد جمع الناس وقرأ عليهم (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً) فقال رجل يا رسول الله أو فتح هو؟ قال: أي والذي نفسي بيده أنه لفتح. وروى موسى بن عقبة والزهري والبيهقي عن عروة بن الزبير قال أقبل النبي صلى الله عليه وسلم راجعا فقال رجل من أصحابه ما هذا بفتح. لقد صددنا عن البيت وصد هدينا بئس الكلام بل هو أعظم الفتح قد رضي المشركون ان يدفعوكم بالراح عن بلادهم وسألوكم القضية ويرغبوا إليكم في الأمان ولقد رأوا منكم ما كرهوا وأظفركم الله عليهم وردكم سالمين مأجورين فهو أعظم الفتوح. أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم. أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا فقال المسلمون صدق الله ورسوله هو أعظم الفتوح والله يا نبيّ الله ما فكرنا فيما فكرت فيه ولأنت أعلم بالله وأمره منا.


(١) encyclopaedia of Islam. see Hu
(٢) هو موضع أمام عسفان.

<<  <  ج: ص:  >  >>