للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

-كان ارسال الكتاب إلى هرقل سنة ست من الهجرة بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من الحديبية وكان وصوله إليه في المحرم سنة سبع وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم دحية بن خليفة الكلبي أن يدفعه إلى عظيم بصري وهو الحارث ملك غسان ليدفعه إلى هرقل وكان هرقل قد نذر أنه إذا ظهر على الفرس وأخرجهم من بلادهم زار القدس حاجا ماشيا على قدميه. فخرج في خريف ٦٢٨ م (السنة الرابعة من الهجرة) وفاء بنذره. وفي أثناء سفره سلم إليه حاكم بصرى كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وكان دحية لما انتهى إلى الحارث أرسل معه عدي بن حاتم ليوصله إلى هرقل.

وهذا نص الكتاب

(بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم. السلام على من اتبع الهدى أما بعد. أسلم تسلم. وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين وأن تتول فإن إثم الاكارين عليك (١)) عن عبد الله بن عباس قال: (٢) "حدثني أبو سفيان بن حرب قال: كنا قوماً تجاراً وكانت الحرب بيننا وبين رسول الله قد حصرتنا حتى نهكت أموالنا فلما كانت الهدنة بيننا وبين رسول الله لم نأمن أن لا نجد أمنا فخرجت في نفر من قريش تجار إلى الشام وكان وجه متجرنا منها غزة فقدمناها حين ظهر هرقل على من كان بأرضه من فارس وأخرجهم منها وانتزع له منهم صليبه الأعظم وكانوا قد استلبوه اياه فلما بلغ ذلك منهم وبلغه أن صليبه قد استنقذ له وكانت حمص منزله خرج منها يمشي على قدميه متشكرا لله حين رد عليه ما رد ليصلي في بيت المقدس تبسط له البسط وتلقى عليها الرياحين. فلما انتهى إلى ايلياء وقضى فيها صلاته ومعه بطارقته وأشراف الروم. أصبح ذات غداة مهموماً يقلب طرفه إلى السماء فقال له بطارقته والله لقد أصبحت أيها الملك الغداة مهموماً. قال أجل. أريت في هذه الليلة إن ملك الختان ظاهر. قالوا أيها الملك ما نعلم أمة تختتن إلا اليهود وهم في سلطانك وتحت يدك فابعث إلى كل من لك عليه سلطان في بلادك فمره فليضرب أعناق كل من تحت يده من يهود واسترح من هذا الهم. فوالله إنهم لفي ذلك من رأيهم يديرونه إذ أتاه رسول صاحب بصرى برجل من العرب يقوده وكانت الملوك تهادي الأخبار بينها. فقال أيها الملك إن هذا الرجل من العرب من أهل الشاء والإبل يحدث عن أمر عجب حدث ببلادهم فسله عنه. فلما انتهى به رسول صاحب بصرى إلى هرقل قال هرقل لترجمانه: سله ما كان هذا الحدث الذي كان ببلاده؟ فسأله: فقال خرج بين أظهرنا رجل يزعم أنه نبيّ قد اتبعه ناس وصدقوه وخالفه ناس. وقد كانت بينهم ملاحم في مواطن كثيرة فتركتهم على ذلك. قال فلما أخبره الخبر، قال جردوه فجردوه فإذا هو مختون. فقال هرقل هذا والله الذي أريت، لا ما تقولون. أعطوه ثوبه. ثم دعا صاحب شرطته فقال له قلب لي الشام ظهراً وبطناً حتى تأتيني برجل من قوم هذا الرجل يعني النبي صلى الله عليه وسلم.

قال أبو سفيان: فوالله إنا لبغزة إذ هجم علينا صاحب شرطته فقال أنتم من قوم هذا الرجل الذي بالحجاز؟ قلنا نعم. قال انطلقوا بنا إلى الملك. فانطلقنا معه فلما انتهينا إليه قال أنتم من رهط هذا الرجل؟ قلنا نعم. قال فأيكم أمس به رحماً؟ قلت أنا. قال أبو سفيان: وايم الله ما رأيت من رجل أرى أنه كان أنكر من ذلك الاغلف يعني هرقل. فقال: ادنه فاقعدني بين يديه وأقعد أصحابي خلفي. ثم قال: اني سأسأله فإن كذب فردوا عليه، فوالله لو كذبت ماردوا على ولكني كنت أمرأ سيداً أتكرم عن الكذب وعرفت أن أيسر ما في ذلك إن أنا كذبته أن يحفظوا ذلك عليّ ثم يحدثوه به عني، فلم أكذبه. فقال أخبرني عن هذا الرجل الذي خرج بين أظهركم يدعى ما يدعى. قال فجعلت أزهد له شأنه وأصغر له أمره. وأقول له أيها الملك ما يهمك من أمره؟ إن شأنه دون ما يبلغك فجعل لا يلتفت إلى ذلك. ثم قال: انبئني عما أسألك عنه من شأنه. قلت سل عما بدالك. قال كيف نسبه فيكم؟ قلت محض أوسطنا نسباً. قال فأخبرني هل كان من أهل بيته يقول مثل ما قال فهو يبشبه به؟ قلت لا. قال: فهل كان له فيكم ملك فاستلبتوه اياه فجاء بهذا الحديث لتردوا عليه ملكه؟ قلت لا. قال. قال فأخرني عن أتباعه منكم من هم؟ قال قلت الضعفاء والمساكين والأحداث والغلمان والنساء. وأما ذوو الأسنان والشرف من قومه فلم يتبعه منهم أحد. قال: أخبرني عن من تبعه أيحبه ويلزمه أم يقليه ويفارقه؟ قال قلت ماتبعه رجل ففارقه. قال: أخبرني كيف الحرب بينكم وبينه؟ قال قلت سجال يدال علينا وندال عليه. قال فأخبرني هل يغدر؟ فلم أجد شيئا مما سألني عنه أغمزه فيه غيرها. قلت لا ونحن منه في هدنة ولا نأمن غدره. قال فوالله ما التفت إليها منى ثم كر علي الحديث.

قال سألتك كيف نسبه فيكم فزعمت أنه محضٌ من أوسطكم نسباً وكذلك يأخذ الله النبي إذا أخذه لا يأخذه الا من أوسط قومه نسباً. وسألتك هل كان أحدٌ من أهل بيته يقول بقوله فهو يتشبه به فزعمت أن لا. وسألتك هل كان له فيكم ملك فاستلبتموه اياه فجاء بهذا الحديث يطلب به ملكه فزعمت أن لا. وسألتك عن اتباعه فزعمت أنهم الضعفاء والمساكين والأحداث والنساء وكذلك أتباع الأنبياء في كل زمان. وسألتك عمن يتبعه أيحبه ويلزمه أن يقليه ويفارقه. فزعمت أن لا يتبعه أحد فيفارقه وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلبا فتخرج منه. وسألتك هل يغدر فزعمت أن لا. فلئن كنت صدقتني عنه ليغلبني على ما تحت قدميَّ هاتين ولوددت أني عنده فأغسل قدميهز انطلق لشأنك. قال فقمت من عنده وأنا أضرب إحدى يدي بالأخرى وأقول أي عباد الله لقد أمِرَ أمرُ ابن أبي كبشة (٣) أصبح ملوك بني الأصغر يهابونه في سلطانهم بالشام. قال وقدم عليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخذ الكتاب فجعله بين فخذيه وخاصرته.

وفي البخاري أن قيصر لما صار إلى حمص أذن لعظماء الروم في دسكرة له ثم أمر بأبوابها فغلقت ثم اطلع فقال: يا معشر الروم له لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتتابعوا هذا النبي فحاصوا حيصة حمر الوحض إلى الأبواب فوجدوها قد أغلقت وقالوا له أتدعونا أن نترك النصرانية ونصير عبيد الأعرابي. فلما رأى نفرتهم وأيس من إيمانهم قال ردوهم عليّ وقال أني قلت مقالتي أختبر بها شدتكم على دينكم فقد رأيت. فسجدوا له ورضوا عنه. اه فلم يسلم هرقل.


(١) الاكار هو الفلاح والمراد أثم رعاياك يتبعونك وينقادون لامرك عليك.
(٢) راجع الطبري الجزء الثالث.
(٣) أمر أمرا بن أبي كبشة أي عظم أمره هذا. وفي رواية مازلت مرعوبا من محمد حتى أسلمت وقوله ابن أبي كبشة قيل أنه جد لآمنة بنت وهب أم النبي صلى الله عليه وسلم كان يكنى أبا كبشة.

<<  <  ج: ص:  >  >>