للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

-مؤتة من عمل البلقاء وهي مدينة معروفة بالشام على مرحلتين من بيت المقدس شرق البحر الميت وكانت في جمادى الأولى سنة ثمان (سبتمبر سنة ٦٢٩ م) .

وقد سمى البخاري هذه السرية غزوة وإن لم يخرج فيها النبي صلى الله عليه وسلم لكثرة جيش المسلمين فيها.

وسببها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أرسل الحارث بن عمير الأسدي بكتاب إلى أمير بصرى من جهة هرقل وهو الحارث بن أبي شمر الغساني فلما نززل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني فأوثقه وضرب ولم يقتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم رسول غيره.

هذا هو السبب الذي ذكره أغلب المؤرخين إلا أن ابن اسحاق لم يذكر سببا لهذه السرية وهذه أول سرية حارب فيها المسلمون جيشاً مسيحياً.

فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه على ثلاثة آلاف وندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال أن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس فإن أصيب فليرتض المسلمون رجلا من بينهم يجعلونه عليهم أميراً.

وكان ممن حضر يهودى اسمه النعمان فقال يا محمد إن كنت سميت من سميت أصيبوا جميعاً لأن أنبياء بني اسرائيل كانوا إذا استعملوا الرجل على القوم ثم قالوا إن أصيب فلان فلو سموا مئة أصيبوا جميعاً. ثم جعل يقول لزيد أعهد أي أوص فإنك لا ترجع إلى محمد إن كان نبيا. قال زيد أشهد أنه رسول صادق بار وعقد لهم صلى الله عليه وسلم لواء أبيض ودفعه إلى زيد وأوصاه أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام فإن أجابوا وإلا فاستعينوا عليهم وقاتلوهم فأسرع الناس بالخروج وعسكروا بالجرف (١) وقال: أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيراً. اغزوا باسم الله في سبيل الله من كفر بالله. لا تغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا كبيراً فانيا ولا منعزلا بصومعة ولا تقربوا نخلا ولا تقطعوا شجرا ولا تهدموا بناء".

فلما فصلوا من المدينة سمع العدو بمسيرهم وقام شرحبيل بن عمرو الغساني فجمع أكثر من مائة ألف من الروم وضم إليهم القبائل القريبة الموالية فلما نزل المسلمون معان من أرض الشام بلغهم أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء فأقاموا على معان ليلتين يفكرون في أمرهم وقال نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا فإما أن يمدنا بالرجال وإما يأمرنا بأمر فنمضي له فشجع الناس عبد الله بن رواحة على المضي فقال "إن التي تكرهون للتي خرجتم لها إياها تطلبون الشهادة وما نقاتل الناس بعدد ولا كثرة ولا قوة وإنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به فربما فعل وإن تكن الأخرى فهي الشهادة وليست بشر المنزلتين" فقال الناس لقد صدق ابن رواحة.

فمضوا إلى مؤتة ووافاهم المشركون فجاء منهم من لا قبل لأحد به من العدد الكثير الزائد على مائتي ألف والسلاح والخيل وآلات الحرب فقاتل الأمراء الثلاثة يومئذ على أرجلهم فأخذ اللواء زيد بن حارثة فقاتل المسلمون معه بشجاعة على صفوفهم حتى قتل طعنا بالرماح ثم أخذ اللواء جعفر بن أبي طالب رضي الله عته فقاتل به وهو على فرسه فألجمه القتال وأحاط به فنزل عن فرس له شقراء فعقرها وقاتل قتالا شديداً فقطعت يمينه فأخذ بيساره فقطعت يساره فاحتضنه وقاتل حتى قتل ووجد فيه بضع وسبعون جرحا ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة وتقدم به وهو على فرسه فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد ثم نزل عن فرسه وقاتل حتى قتل (٢)

روى سعيد بن منصور أنهم دفنوا يومئذ زيداً وجعفراً وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم في قبر واحد.

ثم أخذ اللواء ثابت بن أقرم العجلاني البلوي حليف الأنصار وكان من أهل بدر فقال يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم. قالوا أنت. قال ما أنا بفاعل فاصطلحوا على خالد بن الوليد وفي الصحيح حتى أخذ الراية "سيف من سيوف الله" فقاتلهم خالد بن الوليد قتالا شديداً وكان لم يمض على إسلامه إلا ثلاثة أشهر تقريباً وقد تفرق المسلمون لما قتل عبد الله بن رواحة وانهزموا حتى لم يرإثنان جميعاً فاستطاع خالد بن الوليد بعد أن أخذ اللواء وتولى القيادة أن يجمع شملهم وجعل مقدمته ساقة وميمنته ميسرة فظن العدو أن المدد جاءهم. قال ابن اسحاق فلما أخذ الراية (خالد) دافع القوم وخاس بهم ثم انحاز وانحيز عنه حتى انصرف. وسمي ابن اسحاق اثني عشر قتيلا من المسلمين في هذه الغزوة ولا نعلم عدد قتلى العدو.

وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بما حدث في ساحة القتال قبل رجوع الجيش إلى المدينة ونادى في الناس الصلاة جامعة ثم صعد المنبر وعيناه تذرفان وقال:

"يأيها الناس باب خير. باب خير. باب خير. أخبركم عن جيشكم هذا الغازي أنهم انطلقوا فلقوا العدو. فقتل زيد شهيداً فاستغفروا له. ثم أخذ الراية جعفر فشد على القوم حتى قتل شهيداً فاستغفروا له. ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة وأثثبت قدميه حتى قتل شهيداً فاستغفروا له. ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد ولم يكن من الأمراء وهو أمير نفسه ولكنه سيف من سيوف الله فآب بنصره" فمن يومئذ سمي خالد "سيف الله".

قال بعضهم كون ما وقع يوم مؤتة فتحاً ونصرا واضح لاحاطة العدو بهم وتكاثرهم عليهم لأنهم كانوا أكثر من مائتي ألف والصحابة رضي الله عنهم ثلاثة آلاف وكان مقتضى العادة أن يقتلون بالكلية.

وفي هذه الغزوة فرت طائفة من الصحابة إلى المدينة لما عاينوا كثرة جموع الروم فصار أهل المدينة يقولون لهم "أنتم الفرارون" ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "بل هم الكرارون".

وأول من جاء بخبر الجيش يعلى بن أمية رضي الله عنه فلما قدم قال له النبي صلى الله عليه وسلم "إن شئت فأخبرني وإن شئت أخبرتك". قال فأخبرني يا رسول الله لأزداد يقينا فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر كله ووصف له ما كان فقال "والذي بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا واحدا وإن أمرهم لما ذكرت". لكن مستر "موير" اعتبر تلك الرواية التي ذكر فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بما حدث في ساحة القتال قبل أن يصله الخبر خرافة، لأن الخبر كان قد وصل رسول الله من أول رسول أرسله خالد بن الوليد إلى المدينة وعلى ذلك فليست هناك معجزة كما يقول المسلمون، لكنه لم يعلق شيئا على معجزة رسول الله التي تنبأ فيها بإصابة زيد وجعفر وعبد الله ابن رواحة قبل أن يذهبوا إلى الحرب وقد أصيبوا جميعا بالترتيب كما ذكر. فكان حقا عليه وهو مؤرخ أن يصرح برأيه في هذه المسألة لا أن يذكرها بلا تعليق ويغمض الطرف عنها. والحقيقة أ، هـ لما رأى أن هذه المعجزة واضحة وضوح الشمس في رائعة النهار لم يشأ أن يقرها ويعترف بها.


(١) موضع على ثلاثة أميال من المدينة لجهة الشام.
(٢) عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن عمرو بن امرئ القيس الأكبر الأنصاري الخزرجي ثم من بني الحرث يكنى "أبا محمد" وقيل "أبا رواحة" وقيل "أبا عمر" وأمه كبشة بنت واقد بن عمرو بن الأطنابة من بني الحارث بن الخزرج أيضا وكان ممن شهد العقبة وكان نقيب بني الحارث بن الخزرج وشهد بدراً وأحداً والخندق والحديبية وعمرة القضاء والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الفتح وما بعده. وكان من الشعراء الذين يناضلون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ومن شعره في النبي صلى الله عليه وسلم:
إني تفرست فيك الخير نافلة ... الله يعلم أني ثابت البصر
أنت الرسول فمن يحرم نوافله ... والوجه منه فقد أزرى به القدر.

<<  <  ج: ص:  >  >>