-لما كان صلح الحديبية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش كان فيما شرطوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشرط لهم أن من أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده فيدخل فيه. ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه. فدخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده.
والسبب في دخول خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خزاعة كانت حليفة جده عبد المطلب حين تنازع مع عمه نوفل في ساحات وأفنية من السقاية كانت في يد عبد المطلب فأخذها منه نوفل فاستنهض عبد المطلب قومه فلم ينهض معه منهم أحد وقالوا لا ندخل بينك وبين عمك. ثم كتب إلى أخواله بنو النجار فجاء منهم سبعون وقالوا ورب هذه البنية لتردن على ابن أختنا ما أخذت منه وإلا ملأنا منك السيف فرده. ثم حالف نوفل بني أخيه عبد شمس فحالف عبد المطلب خزاعة وكان عليه الصلاة والسلام بذلك عارفا ولقد جاءته خزاعة يوم الحديبية بكتاب جده عبد المطلب فقرأه عليه أبيّ بن كعب رضي الله عنه فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على حلفهم.
وقد كان بين بني بكر بن عبد مناف وبين خزاعة حروب وقتلى في الجاهلية وتشاغلوا عن ذلك لما ظهر الإسلام. قال ابن اسحاق فلما كانت الهدنة اغتنمها بنو الديل من بني بكر من خزاعة وأرادوا أن يصيبوا منهم ثأراً بأولئك النفر الذين أصابوا منهم بني الأسود بن رزين فخرج نوفل بن معاوية الديلي في بني الديل وهو يومئذ قائدهم وليس كل بني بكر بايعه حتى بيت خزاعة وهم على الوتير ماء لهم فأصابوا منهم رجلا وتجاوزوا واقتتلوا ورفدت بني بكر قريش بالسلاح وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفياً حتى حازوا خزاعة إلى الحرم فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر يا نوفل إنا قد دخلنا الحرم "الهك. الهك" فقال كلمة عظيمة لا إله له اليوم يا بني بكر أصيبوا ثأركم فلعمري أنكم لتسرفون في الحرم أفلا تصيبون ثأركم فيه وقد أصابوا منهم ليلة بيتوهم بالوتير رجلا يقال له منبه وكان منبه رجلا مفؤدا (ضعيف الفؤاد) خرج هو ورجل من قومه يقال له تميم بن أسد. فقال له منبه يا تميم انج بنفسك. فأما أنا فوالله إني لميت قتلوني أو تركوني قد انبتَّ فؤادي وانطلق تميم فأفلت وأ<ركوا منبهاً فقتلوه.
فلما دخلت خزاعة مكة لجأوا إلى دار بديل بن ورقاء الخزاعي ودار مولى لهم يقال له رافع.
قال الواقدي كان ممن أعان من قريش بني بكر على خزاعة ليلتئذ بأنفسهم متنكرين صفوان بن أمية. وعكرمة بن أبي جهل. وسهيل بن عمرو مع عيرهم وعبيدهم.
وذكر غيره حويطب بن عبد العزى. وشيبة بن عثمان وكل هؤلاء أسلموا بعد ذلك.
وكان جملة من قتل من خزاعة عشرين أو ثلاثة وعشرين.
فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة وأصابوا منهم ما أصابوا ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق بما استحلوا من خزاعة وكانوا في عقده وعهده خرج عمرو بن سالم الخزاعي ثم أحد بني كعب حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وكان ذلك مما هاج فتح مكة، فوقف عليه وهو في المسجد بين ظهراني الناس فقال:
يا رب إني ناشد محمداً ... حِلفَ أبينا وأبيه الأتلدَا
قد كنتم ولداً وكنا والداً ... ثمت أسلمنا فلم تنزع يدا
فانصر هداك الله نصر اعتدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا ... أن سيم خَسفاً وجهه ترَبدا
في فيلق كالبحر يجري مزبدا ... إن قريشاً أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا ... وجعلوا لي في كداء رصدا
وزعموا أن لست أدعوا أحدا ... وهم أذل وأقل عددا
هم بيتونا بالوتير هُجداً ... وقتلوانا ركعاً وسجدا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرت يا عمرو بن سالم. وفي رواية فقام صلى الله عليه وسلم وهو يجر رداءه ويقول: لانصرت إن لم أنصركم بنا أنصر به نفسي. وفي رواية. قال والذي نفسي بيده لأمنعنهم مما أمنع به نفسي وأهل بيتي. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب مما كان من شأن بني كعب غضبا لم أره غضبه منذ زمان. ثم قال صلى الله عليه وسلم لعمرو بن سالم وأصحابه بعد أن علم منهم حقيقة ما حدث ارجعوا وتفرقوا في الأودية فرجعوا وتفرقوا وكان عددهم نحو أربعين راكبا من خزاعة وقصد رسول الله بتفرقهم إخفاء مجيئهم.
وخرج بُدَيلُ بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله المدينة فأخبروه بما أصيب منهم وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم ثم انصرفوا راجعين إلى مكة ولكن لم يبلغنا ماذا قال وفد بديل وبماذا أجابهم رسول الله.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس كأنكم بأبي سفيان قد جاء ليشدد العقد ويزيد في المدة. ومضى بديل بن ورقاء وأصحابه فلقوا أبا سفيان بعسفان قد رعثته قريش إلى رسول الله ليشدد العقد ويزيد في المدة وقد رهبوا الذي صنعوا. فلما لقى أبو سفيان بديلا. قال من أين أقبلت يا بديل؟ وظن أنه أتى رسول الله، قال سرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن هذا الوادي. قال أو ما أتيت محمدا؟ قال لا. قال فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان لئن كان جاء المدينة لقد علف بها النوى فعمد إلى مبرك ناقته فأخذ من بعرها ففته فرأى فيه النوى (وهذا من فراسة العرب) فقال أحلف باللذه لقد جاء بديل محمداً ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان (زوج رسول الله) فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه. فقال يا بنية والله ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم أرغبت به عني؟ قالت بل هو فراش رسول الله وأنت رجل مشرك نجس فلم أحب أن تجلس على فراش رسول الله. قال واللذه لقد أصابك بعدي شر. ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فلم يرد عليه شيئا. ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله. فقال ما أنا بفاعل. ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه فقال أنا أشفع لكم إلى رسول الله فوالله لو لم آخذ إلا الذرّ لجاهدتكم. ثم خرج فدخل على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وعنده فاطمة ابنة رسول الله وعندها الحسن بن عليّ غلام يَدبِ بين يديها فقال: يا علي إنك أمس القوم بي رحماً وأقربهم مني قرابة وقد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائباً. اشفع لنا إلى رسول الله. قال ويحك يا أبا سفيان والله لقد عزم رسول الله على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه. فالتفت إلى فاطمة فقال يا ابنة محمد هل لك أن تأمري بُنيك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت والله ما بلغ بني ذلك أن يجير بين الناس وما يجير على رسول الله أحد. قال يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد اشتدت عليّ فانصحني. فقال له والله ما أعلم شيئا يغني عنك شيئا ولكنك سيد بني كنانة فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك. قال أوترى ذلك مغنياً عني شيئا؟ قال لا والله ما أظن ولكن لا أجد لك غير ذلك. فقام أبو سفيان في المسجد. فقال:
"أيها الناس إني أجرت بين الناس" ثم ركب بعيره وانطلق (١)
اراد أبو سفيان من ذهابه إلى المدينة أن يشدد العقد ويزيد في المدة ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أعرض عنه ولم يجبه بشئ ووجد من أبي بكر وعمر وعلي وفاطمة رضي الله عنهم كل إعراض ولم يعده أحد منهم بشيء حتى يأس ورجع بخفي حنين لكنه على كل حال كان يعلم أن رسول الله قد عزم على أمر إزاء ما كان من تعدي بني بكر ومساعدة نفر من قريش لهم في هذا التعدي لأن ذلك نقض للعهد.
أما ما تخيله بعض المستشرقين من أن أبا سفيان اتفق مع رسول الله على أنه إذا دخل مكة اجتنب سفك الدماء وأن أبا سفيان يقوم من جانبه بمنع أهل مكة من المقاومة فهذا لا أساس له، وليس في السير شيء يدل على هذا الإتفاق.
وقد قالوا أيضا أن رسول الله كان ينتظر أي فرصة تسنح لفتح مكة فلما وقع الإعتداء على خزاعة تظاهر بالغضب ووعد بأخذ الثأر والإنتصار لهم. والحقيقة اعتداء بني بكر نقض صريح للعهد وكيف لا يغضب وقد قتل من خزاعة وهم حلفاؤه أكثر من عشرين نفراً ولقد لجأوا إليه وناشدوه أن يدفع عنهم هذا الإعتداء!
والدليل على أن أبا سفيان عاد من غير أن يحظى بأي إتفاق أنه لما قدم على قريش قالوا ما وراءك؟ قال جئت محمداً فكلمته فوالله ما ردّ علّشيئا. ثم جئت ابن ابي قحافة (أبا بكر) فلم أجد عند خيراً. ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أعدى القوم. ثم جئت عليّ بن أبي طالب فوجدته ألين القوم وقد أشار علي بشيء صنعته فوالله ما أدري هل يغنيني شيئا أم لا؟ قال وبماذا أمرك؟ قال أمرني أن أجير بين الناس ففعلت. قال فهل أجاز ذلك محمد؟ قال لا. قالوا ويلك والله أن زاد علي أن لعب بك. فما يغني عنا ما قلت. قال لا والله ما وجدت غير ذلك.
غير أن ريشاً لما طالت غيبة أبي سفيان اتهمته أشد التهمة وقالوا قد صبأ واتبع محمداً وكتم إسلامه. ولكنه لم يصبأ ولم يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما طالت غيبته بسبب أنه أكثر من الإلتجاء والتحدث إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار ليشفعوا له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما طال انتظاره وأيس منهم عاد إلى مكة من غير أن ينال طائلا.
ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تجهز وما أعلم أحداً وكان يقول: "اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم فلا يرونا إلا بغتة ولا يسمعون بنا إلا فلتة" وأمر جماعة أن تقيم بالأنقاب وكان عمر رضي الله عنه يطوف على الأنقاب فيقول لا تدعوا أحداً يمر بكم تنكروه إلا رددتموه. وقيل أمر بالطرق فحبست فعمي على أهل مكة لا يأتيهم خبر.
(١) راجع ابن اسحاق.