للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٦٤٠٠ ٩٨٠

لكن هذا العدد أقل من المشهور بكثير بل هو أقل ممن خرج من المدينة وحدها وكان معه صلى الله عليه وسلم من زوجاته أم سلمة وميمونة رضي الله عنهما. وكان حروجه بعد العصر. ولم يزل رسول الله مفطرا رفقا بالمسلمين حتى انسلخ الشهر لأنه وإن قدم مكة قبل تمام الشهر لكنه كان في أهبة القتال وقد عُمِّيَت الأخبار عن قريش فلا يأتيهم خبر عن رسول الله ولا يدرون ما هو فاعل. وخرج في تلك الليلة أبو سفيان ابن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يتجسسون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العباس وكان قد خرج من مكة سمعت أبا سفيان وهو يقول "والله ما رأيت كاليوم قط نيرانا. فقال بديل هذه والله نيران خزاعة حمشتها الحرب. فقال أبو سفيان خزاعة ألام من ذلك وأذل. قال العباس فعرفت صوته فقلت يا أبا حنظلة "يعني أبا سفيان" فقال أبو الفضل (العباس) فقلت نعم. فقال لبيك فداك أبي وأمي فما وراءك؟ فقلت هذا رسول الله ورائي قد دلف إليكم بما لا قبل لكم به بعشرة الآف من المسلمين قال فما تأمرني؟ فقلت تركب عجز هذه البغلة فاستأمن لك رسول الله فوالله لئن ظفر بك ليضربن عنقك فردفني فخرجت به أركض بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو رسول الله فكلما مررت بنار من نيران المسلمين ونظروا إليَّ قالوا عم رسول الله على بغلة رسول الله حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال لأبي سفيان الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد ثم أشتد نحو النبي صلى الله عليه وسلم وركضت البغلة وقد أردفت أبا سفيان حتى اقتحمت على باب القبة وسبقت عمر بما تسبق به الدابة البطيئة الرجل البطئ فدخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله هذا أبو سفيان عدو الله قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد فدعني أضرب عنقه. فقلت يا رسول الله إني قد أجرته (٣) ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت برأسه فقلت والله لا ينجيه اليوم أحد دوني فلما أكثر فيه عمر فوالله ما تصنع هذا إلا أنه رجل من بني عبد مناف ولو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا. فقال مهلا يا عباس فوالله لاسلامك يوم أسلمت كان أحب إلى من إسلام الخطاب لو أسلم وذلك لأني أعلم أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله من إسلام الخطاب لو أسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اذهب فقد أمّناه حتى تغدو به عليّ بالغداة فرجع به إلى منزله فلما أصبح غدا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟ فقال بأبي أنت وأمي، ما أوصلك وأحلمك وأكرمك! واللذه لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى عني شيئا. فقال ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ فقال بأبي أنت وأمي ما أوصلك وما أحلمك وما أكرمك! أما هذه ففي النفس منها شيء. فقال العباس فقلت له ويلك تشهد شهادة الحق قبل والله ان تضرب عنقك. قال فتشهد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس حين تشهد أبو سفيان إنصرف يا عباس فاحبسه عند خطم الجبل بمضيق الوادي حتى تمر عليه جنود الله. فقلت له يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا يكون في قومه. فقال نعم "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. ومن دخلا لمسجد فهو آمن. ومن أغلق عليه بابه فهو آمن" فخرجت حتى حبسته عند خطم الجبل بمضيق الوادي فمرت عليه القبائل فيقول من هؤلاء يا عباس؟ فأقول سليم فيقول مالي ولسليم فتمر به قبيلة فيقول من هؤلاء؟ فيقول أسلم فيقول مالي ولأسلم وتمر جهينة فيقول مالي ولجهينة حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخضراء كتيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق فقال من هؤلاء يا أبا الفضل؟ فقلت هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار، فقال يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما فقلت ويحك أنها النبوة. فقال نعم إذن فقلت ألحق الآن بقومك فحذرهم فخرج سريعا حتى أتى مكة فصرخ في المسجد: (يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به) قالوا فمه. فقال (من دخل داري فهو آمن) قالوا ويحك وما تغني عنا دارك. فقال: (ومن دخل المسجد فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن) . كذا في رواية ابن اسحاق. وذكر موسى بن عقبة وغيره أن العباس قال قلت يا رسول الله أبو سفيان وحكيم وبديل قد أجرتهم وهم يدخلون عليك قال أدخلهم فدخلوا عليه فمكثوا عنده عامة الليل يستخبرهم فدعاهم إلى الإسلام وأن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأ، هـ رسول الله فشهد بديل وحكيم وقال أبو سفيان ما أ'لم ذلك والله إن في النفس من هذا شيئا فأرجئها وفي رواية قال له صلى الله عليه وسلم يا أبا سفيان اسلم تسلم. قال كيف أصنع بالات والعزى فقال له عمر اخرأ عليهما. وكان عمر رضي الله عنه خارج القبة ثم قال عمر أما والله لو كنت خارج القبة ما قلتها. فقال أبو سفيان ويحك يا عمر إنك رجل فاحش. دعني مع ابن عمي فإياه أكلم الخ ...

وكان ممن لقيه صلى الله عليه وسلم في الطريق أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن عمه صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاع من حليمة السعدية وكان مع أبي سفيان ولده جعفر وعبد الله ابن أمية المخزومي ابن عمته صلى الله عليه وسلم عاتكة بنت عبد المطلب وهو أخو أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم لأبيها لأن أمها عاتكة بنت عامر بن قيس.

يقال إن الذين كانوا يشبهون النبي صلى الله عليه وسلم:

جعفر بن أبي طالب والحسن بن علي وقثم بن العباس وأبو سفيان ابن الحارث.

وكان أبو سفيان بن الحارث من الشعراء المطبوعين وكان سبق له هجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وإياه عارض حسان بن ثابت بقوله:

ألا أبلغ أبا سفيان عني ... مغلغلة فقد برح الخفاء

هجوت محمداً فأحببت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء

وكان لقاء أبي سفيان ومن معه النبي صلى الله عليه وسلم بنيق العقاب فيما بين مكة والمدينة. فالتمسا الدخول على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته أم سلمة فيهما فقالت يا رسول الله ابن عمك وابن عمتك وصهرك، قال لا حاجة لي بهما أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال بمكة ما قال (يعني قوله له: والله لا آمنت بك حتى تتخذ سلما إلى السماء فتعرج فيه وأنا أنظر ثم تأتي بصك وأربعة من الملائكة يشهدون أن الله أرسلك) .

فلما خرج الخبر إليهما بذلك ومع أبي سفيان بُنَى له فقال والله ليأذنَنَّ لي أو لآخذن بيد بُنَيّ هذا ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشاً وجوعاً. فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لهما ثم أذن لهما فأسلما وأنشد أبو سفيان قوله في إسلامه واعتذاره مما كان مضى منه:

لعمرك إني يوم أحمل راية ... لتغلب خيلُ اللات خيلَ محمد

لكا لمدلج الحيران أظلم ليلُه ... فهذا أواني حين أهدي وأهتدي

وهاد هداني غير نفسي ودلني (٤) ... على الله من طَرّدتُ كل مطرّد

أصُدّ وأنأى جاهداً عن محمد ... واُدعى ولو لم أنتسب من محمد

هم ما هم من لم يقل بهواهُم ... وإن كان ذا رأي يُلمْ ويُفنّد

أريد لأرضيهم ولست بلائط ... مع القوم ما لم أهد في كل مقعد

فقل لثقيف لا أريد قتالها ... وقل لتثقيف تلك عيري أوْ عدي

وما كنت في الجيش الذي نال عامرا ... وما كان عن جَرّى لساني ولا يدي

قبائل جاءت من بلاد بعيدة ... نزائع جاءت من سُهام وسُرْدد

قال ابن اسحاق فزعموا أنه حين أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله ونالني مع الله من طردت كل مطرد. ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره وقال: "أنت طردتني كل كطرد" وقال عليّ رضي الله عنه لأبي سفيان بن الحارث عند اذنه صلى الله عليه وسلم له في الدخول عليه ائت من قبل وجهه فقال له ما قال اخوة يوسف: "تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين" فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولا، ففعل ذلك أبو سفيان فقال له صلى الله عليه وسلم {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ الله لَكُمْ وَهُوَ أرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} .


(١) اسم هذه المرأة سارة وهي مولاة لبني المطلب وسيأتي ذكرها فيمن أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه يوم فتح مكة.
(٢) أبو رهم الغفاري اسمه كلثوم بن الحصين بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وشهد أحدا فرمى بسهم في نحره فسمى "المنحور". واستخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة عام الفتح فلم يزل عليها حتى انصرف رسول الله من الطائف وشهد بية الرضوان وبايع تحت الشجرة وغزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك.
(٣) قد آن لنا أن نكتب شيئا عن ترجمة أبي سفيان فهو صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس ابن عبد مناف القرشي الأموي ويكنى أبا حنظلة بابنه حنظلة ولد قبل الفيل بعشر سنين وكان من أشراف قريش وكان تاجرا يجهز التجار بماله وأموال قريش إلى الشام وغيرها من أرض العجم وكان يخرج أحيانا بنفسه وكانت إليه راية الرؤساء التي تسمى "العقاب" وإذا حميت الحرب اجتمعت قريش فرضعتها بيد الرئيس وهو الذي قاد قريشا كلها يوم أحد وكان أبو سفيان صديق العباس وأسلم ليلة الفتح وشهد حنينا والطائف مع رسول الله وأعطاه رسول الله من غنائم حنين مائة بعير وأربعين أوقية كما أعطى سائر المؤلفة وأعطى ابنيه يزيد ومعاوية وفقئت عين أبي سفيان يوم الطائف. قال يونس بن عبيد كان عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة بن ربيعة وأبو جهل بن هشام وأبو سفيان لا يسقط لهم رآي في الجاهلية فلما جاء الإسلام لم يكن لهم رآي. وروى أنه لما أسلم ورأى المسلمين وكثرتهم قال للعباس: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً. قال إنها النبوة قال نعم. وفقئت عينه الأخرى يوم اليرموك وشهد اليرموك تحت راية ابنه يزيد. ولما عمي أبو سفيان كان يقوده مولى له وتوفي سنة إحدى وثلاثين وكان عمره ثمان وثمانين سنة وقيل كان عمره ثلاثا وتسعين سنة.
(٤) ويروى: ودلني على الحق ويروى: ونالني مع الله.

<<  <  ج: ص:  >  >>