للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

-أول ما نزل عليه صلى الله عليه وسلم من القرآن "اقرأ" كما صح ذلك عن عائشة وروى ذلك عن أبي موسى الأشعري وعبيد بن عمير. قال النووي وهو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف. وقوله "ما أنا بقارئ" أي أني أمي فلا أقرأ الكتب. قال الزجاج: الأمي الذي على خلقة الأمة لم يتعلم الكتاب فهو على جبلته. وفي التنزيل العزيز {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمانِيَّ} .

قال أبو اسحاق: معنى الأمي المنسوب إلى ما عليه جبلته أمه أي لا يكتب وهو في أنه لا يكتب أمى لأن الكتابة مكتسبة فكأنه نسب إلى ما يولد عليه. أي على ما ولدته أمه عليه. وكانت الكتابة في العرب من أهل الطائف تعلموها من رجل من أهل الحيرة وأخذها أهل الحيرة عن أهل الأنبار. وفي الحديث "أنا أمة أمية لا تكتب ولا تحسب" أراد على أصل ولادة أمهم لم يتعلموا الكتابة والحساب فهم على جبلتهم الأولى. وفي الحديث "بعثت إلى أمة أمية" قيل للعرب الأميين لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة. هذا معنى كلمة "أمى" في اللغة العربية وهكذا كان يفهمها العرب. قال تعالى {الَّذِينَ يَتّبِعُونَ الرَّسُولَ النّبيَّ الاُمِّيَّ الّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاة وَالانْجِيل} وقال تعالى {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَتَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} الآية. قال الفخر الرازي في تفسيره "فالعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرؤن والنبي عليه الصلاة والسلام كان كذلك، فلهذا السبب وصفه يكونه أمياً. قال أهل التحقيق وكونه أمياً بهذا التفسير كان من جملة معجزاته. ويبانه من وجوه:

(الأول) أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ عليهم كتاب الله تعالى منظوماُ مرة بعد أخرى من غير تبديل ألفاظه ولا تغيير كلماته. والخطيب من العرب إذا أرتجل خطبة ثم أعادها فإنه لابد أن يزيد فيها بالقليل والكثير. ثم أنه عليه الصلاة والسلام مع أنه ماكان كتب وما كان يقرأ يتلو كتاب الله من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير فكان ذلك من المعجزات، وإليه الإشارة بقوله تعالى {سَنقْرِئكَ فَلاَ تَنْسَى} .

(الثاني) أنه لو كان يحسن الخط والقراءة لصار متهما في أنه ربما طالع كتب الأولين فحصل هذه العلوم من تلك المطالعة، فلما أتى بهذا القرآن العظيم المشتمل على العلوم الكثيرة من غير تعلم ولا مطالعة كان ذلك من المعجزات، وهذا هو المراد من قوله {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَميِنكَ إِذاً لاَرْتَابَ الْمبْطِلُونَ} .

(الثالث) أن تعلم الخط شيء سهل فإن أقل الناس ذكاء وفطنة يتعلمون الخط بأدنى سعى. فعدم تعلمه يدل على نقصان عظيم في الفهم. ثم أنه تعالى آتاه علوم الأولين والآخرين وأعطاه من الحقائق ما لم يصل إليه أحد من البشر ومع تلك القوة العظيمة في العقل والفهم جعلهه بحيث لم يتعلم الخط الذي يسهل تعلمه على أقل الخلق عقلا وفهماً فكان الجمع بين هاتين الحالتين المتضادتين جاريا مجرى الجمع بين الضدين وذلك من الأمور الخارقة للعادة وجار مجرى المعجزات" اهـ.

وقد طالعت ما كتبه الذين تعرضوا لهذا البحث من الإفرنج الذين ترجموا حياة النبي صلى الله عليه وسلم فوجدت تخبطا مدهشاً فقد بحث الأستاذ نولدكه الألماني في كتابه "تاريخ القرآن" (١) هل كان النبي يعرف القراءة والكتابة بل تفيد أن لا يعرف الأسفار القديمة

والثابت من التاريخ والقرآن والحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يعرف القراءة والكتابة بالرغم من أن بعض المستشرقين يحاولون أن يثبتوا عكس ذلك من غير برهان. إنما هم يستنتجون بعقولهم. ليتعجبوا ما شاءوا من أميته ولكن يجب عليهم أن يتعرفوا بأنه ما كان يعلم القراءة والكتابة. وجاء في قاموس الإسلام (٢) "ومع ذلك فمن المحقق أنه (النبي صلى الله عليه وسلم) كان يتظاهر بإنه يجهل القراءة والكتابة كي يجعل انشاء القرآن معجزا"

فهل بعد ذلك تعسف! لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ أو يكتب لتحدث بذلك أصحابه أو أعداؤه، ولما أمكن أن يكون أمراً مكتوما طول حيانه خصوصا أن جميع صفات النبي وأعماله قد روتها الصحابة بالتفصيل حتى خصوصياته في منزله مع نسائه. على أن المنصفين من مؤررخي الإفرنج وفلاسفتهم قد اعترفوا بأميته. فمن ذلك ما كتبه المسيو سيدليو في كتابه "تاريخ العرب" الجزء الأول ص ٥٩ من الطبعة الثانية:

"ولما كان (رسول الله صلى الله عليه وسلم) غير متعلم مثل أبناء وطنه كان لا يعرف القراءة"

وقال الفيلسوف الإنجليزي توماس كارليل في كتاب الأبطال الذي عني بترجمته الأستاذ محمد السباعي رحمه الله:

"ثم لا ننسى شيئا آخر وهو أنه لم يتلق دروساً على أسناذ أبداً وكانت صناعة الخط حديثة العهد إذ ذاك في بلاد العرب. ويظهر لي أن الحقيقة هي أن محمداً لم يكن يعرف الخط والقراءة وكل ما تعلم هي عيشة الصحراء وأحوالها"

وجاء في كتاب الإسلام تأليف الكونت هنري دي كاسترى ترجمة المرحوم أحمد فتحي زغلول باشا:

"أن محمداً ما كان يقرأ ولا يكتب بل كان -كما وصف نفسه مراراً- نبياً أمياً، وهو وصف لم يعارضه فيه أحد من معاصريه. ولا شك أنه يستحيل على رجل في الشرق أن يتلقى العلم بحيث لا يعلمه الناس لأن حياة الشرقيين كلها ظاهرة للعيان، على أن القراءة والكتابة كانت معدومة في ذلك الحين من تلك الأقطار الخ". ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أميا احتاج إلى كتاب يكتبون له وقد ذكر الحافظ أبو القاسم في تاريخ دمشق أنهم ثلاثة وعشرون، وروى ذلك كله بأسانيده وهم:

أبو بكر الصديق. عمر ابن الخطاب. وعثمان وعلي والزبير وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ومعاوية بن أبي سفيان ومحمد بن سلمة والأرقم بن أبي الأرقم وابان بن سعيد بن العاص وأخوه خالد بن سعيد وثابت بن قيس وحنظلة بن الربيع وخالد بن الوليد وعبد الله بن الأرقم وعبد الله بن زيد بن عبد ربه والعلاء بن عتبة والمغيرة بن شعبة والسجل وزاد غيره شرحبيل بن حسنة قالوا وكان أكثرهم كتابة زيد بن ثابت ومعاوية رضي الله عنهم

وسيأتي في غزوة أحد أن العباس كان بمكة وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً يخبره بجمع قريش وخروجهم. فلما جاء كتاب العباس وكان أرسله مع رجل من بني غفار، فك رسول الله ختمه ودفعه لأبي بن كعب فقرأه عليه فاستكتم أبياً (٣) فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف القراءة لما دفع كتاباً يحوي أخباراً سرية إلى أحد لقراءته

وذكر ابن مأكولا أن تميم بن جراشة وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه أنه قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد ثقيف فأسلمنا وسألناه أن يكتب لنا كتاباً فيه شروط فقال اكتبوا ما بدا لكم ثم ايتوني به فسألناه في كتابنا أن يحل لنا الربا والزنا فأبى علىّ أن يكتب لنا فسألنا خالد بن سعيد بن العاص فقال له عليّ: تدري ماتكتب؟ قال أكتب ما قالوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال للقارئ اقرأ. فلما انتهى إلى الربا قال ضع يدي عليها فوضع يده فقال {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَذَرُوا مَابَقِيَ مِنَ الرِّبَا} الآية. ثم محاها وألقيت علينا السكينة فما راجعناه فلما بلغ "الزنا" وضع يده وقال: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنهُ كَانَ فَاحِشَةً} الآية. ثم محاها وأكر بكتابنا أن ينسخ لنا (٤)

وقد تصور بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتلوا الكتب الدينية القديمة ومنها استقى معلوماته، وهذا لا أساس له، إذ لم يكن في جزيرة العرب كتب دينية باللغة العربية في ذلك الوقت. ومن المؤكد أنه كما كان يعرف أي لغة من اللغات الأجنبية

وقد قيل أيضا أنه صلى الله عليه وسلم اقتبس بعض تعاليم المسيحية أثناء سفره إلى الشام عندما كان يتاجر، وبديهي أن التاجر العربي الذي لا يعرف اللغة الآرمية واليونانية كان يتعذر عليه الحصول على معلومات دينية من مسيحي الشام. أما الذين كانوا يتكلمون العربية من هؤلاء المسيحيين فقد كانوا جهالا أميين

وأما ما قيل من أن ورقة بن نوفل ترجم جزءا من الكتب المسيحية إلى العربية فغير محتمل بالمرة (٥) ومع ذلك يزعم در منجم في كتابه "حياة محمد" أن ورقة ترجم الأناجيل إلى العربية.


(١) Geschte des Qorans P. ٧ Sqq.
(٢) Dictionary of Isiam by Thomas Patrick Hughes. ٢ nd. edition, P. ٣٩٢
(٣) راجع السيرة النبوية لدحلان. الجزء الأول ص ٢٥٨ طبعة المطبعة الوهبية سنة ١٢٨٥ هـ.
(٤) راجع أسد الغابة. الجزء الأول "تميم بن جراشة".
(٥) راجع الجزء الثاني من كتاب تاريخ القرون الوسطى لجامعه كامبردج ص (٣٠٥-٣٠٦)
The Cambridge Medeval History Vol. ١١ (١٩٣١) pp. (٣٠٥ - ٣٠٦)

<<  <  ج: ص:  >  >>