للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

-هو عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة ابن كعب بن لؤي القرشي التيمي.

ولد أبو بكر سنة ٥٧٣ م وهو أول الخلفاء. وأمه أم الخير سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة وهي، ابنة عم أبي قحافة. وهو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار وفي الهجرة والخليفة بعده. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى عنه عمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وحذيفة وزيد بن ثابت وغيرهم. وقد اختلف في اسمه فقيل كان عبد الكعبة فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله. وقيل أن أهله سموه عبد الله ولا يبعد ذلك لأن التسمية بعبد الله كانت موجودة قبل الإسلام ويقال له عتيق أيضاً واختلفوا في السبب الذي سمي لأجله "عتيق" فقال بعضهم قيل له عتيق لحسن وجهه وجماله. قال الليث بن سعد وجماعة معه. وقال الزبير بن بكار وجماعة معه إنما قيل له عتيق لأنه لم يكن في نسبه شيء يعاب به. وقيل إنما سمي عتيقا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أنت عتيق الله من النار". وعن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له "أنت عتيق من النار" فيومئذ سمى عتيقاً. وقيل له "الصديق" أيضاً. قالت عائشة رضي الله عنها لما أسرى بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح يحدث الناس بذلك فأرتد ناس ممن كان قد آمن وصدق وفتنوا به، فقال أبو بكر أني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك. أصدقه بخبر السماء غدوة أو روحة. فلذلك سمى أبو بكر الصديق، وقال أبو محجن الثقفي:

وسميت صديقا وكل مهاجر ... سواك يسمى باسمه غير منكر

سبقت إلى الاسلام والله شاهد ... وكنت جليساً في العريش المشهر

وكان رضي الله عنه صديقاً لرسول الله قبل البعثة وهو أصغر منه سناً بثلاث سنوات وكان يكثر غشيانه في منزله ومحادثته وقيل كنى بأبي بكر لابتكاره الخصال الحميدة فلما أسلم آزر النبي صلى الله عليه وسلم في نصر دين الله تعالى بنفسه وماله وكان له لما أسلم أربعون ألف درهم أنفقها في سبيل الله مع ما كسب من التجارة. قال تعالى {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأتْقَى الَّذِى يُوْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لَأَحَدٍ عِنُدَهُ مِنْ نِعْمَة تُجْزَى} وقد أجمع المفسرون على أن المراد منه أبو بكر. قال الفخر الرازي رداً على من قال إنها نزلت في حق علي رضي الله عنه:

"لما ذكر بعضم في محضرى قلت أقيم الأدلة العقلية على أن المراد من هذه الآية هو أبو بكر. وتقريرها أن المراد من هذا الأتقى هو أفضل الخلق فإذا كان كذلك وجب أن يكون المراد هو أبو بكر فهاتان المقدمتان متى صحتا صح المقصود إلى أن قال لأن الأمة مجمعة على أن أفضل الخلق بعد رسول الله إما أبو بكر أو على ولا يمكن حمل هذه الآية على عليّ بن أبي طالب فتعين حملها على أبي بكر. إنما قلنا لا يمكن حملها على عليّ بن أبي طالب لأنه قال في صفة هذا الأتقى "وما لأحد عنده من نعمة تجزى" وهذا الوصف لا يصدق على عليّ بن أبي طالب لأنه كان في تربية النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه أخذه من أبيه وكان يطعمه ويسقيه ويكسوه ويربيه وكان الرسول منعماً عليه نعمة يجب جزاؤها. أما أبو بكر فلم يكن للنبي عليه السلام عليه نعمة دنيوية بل كان أبو بكر ينفق على الرسول عليه السلام. بلى كان للرسول عليه السلام عليه نعمة الهداية والأرشاد إلى الدين الا أن هذا لا يجزي لقوله تعالى {ما أسئلكم عليه من أجر} والمذكور ههنا ليس مطلق النعمة بل نعمة تجزي فعلمنا أن هذه الآية لا تصلح لعلي رضي الله عنه".

كان أبو بكر رضي الله عنه من رؤساء قريش في الجاهلية محببا فيهم مؤلفاً لهم وكان إليه الأشناق في الجاهلية (١) كان إذا حمل شيئا صدقته قريش وأمضوا حمالته وحمالة من قام معه وإن احتملها غيره خذلوه ولم يصدقوه فلما جاء الإسلام سبق إليه وأسلم على يده جماعة لمحبتهم له وميلهم إليه حتى أنه أسلم على يده خمسة من العشرة وقد ذهب جماعة إلى أنه أول من أسلم. قال الشعبي سألت ابن عباس من أول من أسلم؟ قال أبو بكر. أما سمعت قول حسان:

إذا تذكرت شجواً من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا

خير البرية أتقاها وأعدلها ... بعد النبي وأوفاها بما حملا

والثاني التالي المحمود مشهده ... وأول الناس قدما صدق الرسلا

وكان أعلم العرب بأنساب قريش وما كان فيها من خير وشر وكان تاجرا ذا ثروة طائلة وكريماً حسن المجالسة عالماً بتعبير الرؤيا ولما أسلم جعل يدعو الناس إلى الإسلام. قال ابن اسحاق بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة ونظر وتردد إلاما كان من أبي بكر رضي الله عنه ما علم عنه حين ذكرته له أي أنه بادر به. ونزل فيه وفى عمر "وشاورهم في الأمر" فكان أبو بكر بمنزلة الوزير من رسول الله فكان يشاوره في أموره كلها. ولما أشتد أذى كفار قريش لم يهاجر إلى الحبشة مع المهاجرين بل بقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهاجر معه إلى المدينة تاركا عياله وأولاده وأقام معه في الغار ثلاثة أيام. قال الله تعالى {ثَانِىَ أثْنَيْن إِذ هُمَا فِي الْغَارِ إِذ يَقُولُ لِصَاحِبهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} .

لما كانت الهجرة جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر وهو نائم فأيقظه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أذن لي في الخروج. قالت عائشة فلقد رأيت أبا بكر يبكي من الفرح ثم خرجا حتى دخلا الغار فأقاما فيه ثلاثة أيام. قال تعالى: {إِلاَّ تَنْصُرُهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفرُوا ثَانِىَ أثْنَينِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَتَحزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} سورة التوبة.

وقد دلت هذه الآية على فضيلة أبي بكر لأن رسول الله لولا ثقته التامة بأبي بكر لما صاحبه في هجرته واستخلصه لنفسه وكل من سوى أبي بكر فارق رسول الله وأنه تعالى سماه ثاني اثنين. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكرمه ويجله ويعرف أصحابه مكانه ويثني عليه في وجهه، واستخلفه في الصلاة وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً وأحداً والخندق وبيعة الرضوان بالحديبية وخيبر وفتح مكة وحنينا والطائف وتبوك وحجة الوداع.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا" ودفع أبو بكر عقبة بن أبي معيط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خنق رسول الله وهو يصلي عند الكعبة خنقا شديداً وقال:"يا قولم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم" وأعتق أبو بكر سبعة كانوا يعذبون في الله تعالى منهم بلال وعامر بن فهيرة وكان أبو بكر إذا مدح قال "اللهم أنت أعلم بي من نفسي وأنا أعلم بنفسي منهم اللهم اجعلني خيرا مما يظنون وأغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون" وهذا من تواضعه رضي الله عنه ومما يدل على قوة أرادة أبي بكر ما قاله أبو السفر وهو: دخلوا على أبي بكر في مرضه فقالوا يا خليفة رسول الله ألا ندعو لك طبيباً ينظر إليك. قال قد نظر إلى قالوا ما قال؟ قال "أني فعال لما أريد".

قال عمر رضي الله عنه: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق ووافق ذلك مالاً عندي فقلت ايوم أسبق أبا بكر أن سبقته فجئت بنصف مالي. فقال: ما أبقيت لأهلك؟ قلت مثله، وجاء أبو بكر بكل ما عنده فقال يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك. قال أبقيت لهم الله ورسوله. قلت لا أسبقه إلى شيء أبداً.

ومن أخبار تواضعه رضي الله عنه أنه كان يحب للحى أغنامهم فلما بويع له بالخلافة قالت جارية من الحى الآن لا يجلب لنا منائحنا فسمعها أبو بكر فقال: بلى لعمري لأحلبنها لكم وأني لأرجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه عن خلق كنت عليه فكان يحلب لهم فربما قال للجارية أتحبين أن أرغى لك أو أن أصرح فأي ذلك قالت فعل.

والآن يقولون أننا في عصر المدينة والحرية والديموقراطية ومع هذا تجد الموظف الصغير يأنف أن يكلم الناس أو يقضي حوائجهم.

وعن سالم بن عبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أشتد مرضه أغمى عليه فلما أفاق قال مروا بلالا فليؤذن ومروا أبا بكر فليصل بالناس قال ثم أغمى عليه فقالت عائشة إن أبي رجل أسيف فلو أمرت غيره. فقال أقيمت الصلاة. فقالت عائشة يا رسول الله إن أبي رجل أسيف فلو أمرت غيره. قال أنكن صواحبات يوسف مروا بلالا فليؤذن ومروا أبا بكر فليصل بالناس. ثم أفاق فقال أقيمت الصلاة قالوا نعم. قال ادعوا لي إنساناً أعتمد عليه فجاءت بريرة وإنسان آخر فانطلقوا يمشون به وإن رجليه تخطان في الأرض. قال فأجلسوه إلى جنب أبي بكر فذهب أبو بكر يتأخر فحبسه حتى فرغ الناس فلما توفي قال وكانوا قوماً أميين لمي كن فيهم نبي قبله. قال عمر لا يتكلم أحد بموته إلا ضربته بسيفي هذا. قال فقالوا له أذهب إلى صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدعه يعني أبا بكر قال فذهبت فوجدته في المسجد قال فأجهشت أبكي. قال لعل نبي الله توفى. قلت إن عمر قال لا يتكلم أحد بموته الا ضربته بسيفي هذا. قال فأخذ بساعدي ثم أقبل يمشي حتى دخل فأوسعوا له فأكب على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كاد وجهه يمس وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر نفسه حتى استبان انه توفى. فقال أنك ميت وأنهم ميتون. قالوا ياصاحي رسول الله توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال نعم. فعلموا أنه كما قال.

قال ابن اسحاق توفى أبو بكر رضي الله عنه يوم الجمعة لسبع ليال بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاثة عشر (٢٣ أغسطس سنة ٦٣٤) وصلى عليه عمر بن الخطاب.

توفي بعد النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين وأشهر بالمدينة وهو ابن ثلاث وستين سنة.

وكان أبو بكر رجلا أبيض نحيفا خفيف العارضين أحنى، معروق الوجه. غائر العينين. ناتئ الجبهة. عارف الأشاجع. يخضب بالحناء والكتم وكان أوب من أسلم من الرجال وأسلم أبواه له ولوالديه ولوده وولد صحبة رضي الله عنهم. واختلف في سبب موته. فقيل أنه مات مسموماً. وقيل أنه اغتسل في يوم بارد فحم خمسة عشر يوما ثم مات بعدها وقيل أنه مات كمدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هذه ترجمة حياة أبي بكر اثبتناها هنا بمناسب اسلامه وما كان له من الشأن العظيم والقدر الرفيع، ولأنه قد بذل المجهود في نصرة الرسول فدل بذلك على غاية الوفاء ومنتهى الاخلاص. ولم يكن رضي الله عنه رجلا ضعيفا كما ظن بعض المستشرقين بل كان شجاعا وكان مع شجاعته مخلصاً لا يبالي بالأهوال ويحتمل المشقات كما يستفاد من سيرته، فبقي مع الرسول ولم يهاجر إلى الحبشة مع المهاجرين عند اشتداد أذى الكفار على المسلمين ولما دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الهجرة معه بكى من فرط السرور. واشترك معه في غزواته وهو ممن ثبت مع رسول الله في غزوة أحد. ولما توفى النبي فقد الناس صوابهم وقال عمر: من قال إن محمداً مات ضربته بسيفي هذا. أما أبو بكر فملك شعوره ولم يفقده وقع المصاب الجلل صوابه، فقال: إنك ميت وأنهم ميتون وسيأتي تفصيل ذلك عند ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا كانت هذه مواقف ضعف وخلال ووهن فأين مواطن القوة؟ ولم نذكر هنا أعماله الجليلة في خلافته (٢) .

يقول هؤلاء المستشرقون إنه كان يصدق الرسول تصديقا أعمى وأنه كان كالنساء سريع البكاء، وهو قول عجيب، فكيف لا يصدق الرسول وهو يعلم أنه صادق لا يكب، بل هو أعلم خلق الله بصدقه عليه الصلاة والسلام لصحبته له تلك الصحبة الطويلة.

أن تصديقه لرسول الله في كل ما قاله نتيجة الثقة به ولأجل هذه الثقة المتينة كان لا يتردد في التصديق به، ولأجلها تحمل معه الشدائد والإضطهادات، ولأجلها أنفق أمواله كلها وهذا شأن العاقل الذي إذا ثبت يقينه على أساس قوي لم يبال بما يصادفه من عقبات في سبيل نصرة الحق. أما بكاؤه عند سماع القرآن فهذا أظهر دليل على أخلاصه وتوقد ذكائه وهو فهمه لكلام الله عز وجل إذ بقدر الفهم يكون التأثر. وقد أجمعوا على كثرة علمه ووفور عقله وفهمه وذهده وتواضعه.


(١) الاشناق: الديات.
(٢) كانت مدة خلافة أبي بكر سنتين قضى فيها على المرتدين قضاء مبرماً وأخضع بني غسان وبني تغلب وهزم الفرس ودخلت جيوشه عاصمتهم وتغلب على العراق وجهز جيشا يبلغ عدده ثلاثين ألفا لمحاربة الروم في الشام كل ذلك في سنتين!!.

<<  <  ج: ص:  >  >>