للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أَخْبَرَنَا أَبُو سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ، وَعُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ الْمُسْتَوْفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا هِجْرَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ قَالَ: ثَلَاثَ لَيَالٍ" فَالْجَوَابُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ: أَنَّ الْآيَ الَّتِي تَلُوهَا فِي ذَمِّ الْعُزْلَةِ وَالْأَحَادِيثَ الَّتِي رَوَوْهَا فِي التَّحْذِيرِ وَمُفَارَقَةِ الْجَمَاعَةِ لَا يَعْتَرِضُ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى الْمَذْهَبِ الَّذِي نَذْهَبُهُ فِي الْعُزْلَةِ وَلَا يُنَاقِضُ تَفْصِيلُهَا جُمْلَتَهُ لَكِنَّهَا تَجْرِي مَعَهُ عَلَى سَنَنِ الْوِفَاقِ وَقَضِيِّةِ الِائْتِلَافِ وَالِاتِّسَاقِ وَسَأُوَضِّحُ لَكَ التَّوْفِيقَ بَيْنَهُمَا بِمَا أُقَسِّمُهُ لَكَ مِنْ بَيَانِ وُجُوهِهَا وَتَرْتِيبِ مَنَازِلَهَا. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو سُلَيْمَانَ فَأَقُولُ: الْفُرْقَةُ فُرْقَتَانِ فُرْقَةُ الْآرَاءِ وَالْأَدْيَانِ وَفُرْقَةُ الْأَشْخَاصِ وَالْأَبْدَانِ، وَالْجَمَاعَةُ جَمَاعَتَانِ: جَمَاعَةٌ هِيَ الْأَئِمَّةُ وَالْأُمَرَاءُ وَجَمَاعَةٌ هِيَ الْعَامَّةُ وَالدَّهْمَاءُ. فَأَمَّا الِافْتِرَاقُ فِي الْآرَاءِ وَالْأَدْيَانِ فَإِنَّهُ مَحْظُورٌ فِي الْعُقُولِ مُحَرَّمٌ فِي قَضَايَا الْأُصُولِ لِأَنَّهُ دَاعِيَةُ الضَّلَالِ وَسَبَبُ التَّعْطِيلِ وَالْإِهْمَالِ. وَلَوْ تُرِكَ النَّاسُ مُتَفَرِّقِينَ لَتَفَرَّقَتِ الْآرَاءُ وَالنِّحَلِ وَلَكَثُرَتِ الْأَدْيَانِ وَالْمِلَلِ وَلَمْ تَكُنْ فَائِدَةٌ فِي بِعْثَةِ الرُّسُلِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَابَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ التَّفْرِيقِ فِي كِتَابِهِ وَذَمَّهُ فِي الْآيِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا. وَعَلَى هَذِهِ الْوَتِيرَةِ نُجْرِي الْأَمْرَ أَيْضًا فِي الِافْتِرَاقِ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَالْأُمَرَاءِ فَإِنَّ فِي مُفَارَقَتِهِمْ مُفَارَقَةَ الْأُلْفَةِ وَزَوَالَ الْعِصْمَةِ وَالْخُرُوجَ مِنْ كَنَفِ الطَّاعَةِ وَظِلِّ الْأَمَنَةِ وَهُوَ الَّذِي نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ وَأَرَادَهُ بِقَوْلِهِ: «مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ» وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِمَامٌ يَجْمَعُهُمْ عَلَى دِينٍ وَيَتَأَلَّفُهُمْ عَلَى رَأْيٍ وَاحِدٍ بَلْ كَانُوا طَوَائِفَ شَتَّى وَفِرَقًا مُخْتَلِفَيْنَ آرَاؤُهُمْ مُتَنَاقِضَةٌ وَأَدْيَانُهُمْ مُتَبَايِنَةٌ وَذَلِكَ الَّذِي دَعَا كَثِيرًا مِنْهُمْ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَطَاعَةِ الْأَزْلَامِ رَأْيًا فَاسِدًا اعْتَقَدُوهُ فِي أَنَّ عِنْدَهَا خَيْرًا وَأَنَّهَا تَمْلِكُ لَهُمْ نَفْعًا أَوْ تَدْفَعُ عَنْهُمْ ضَرًّا. وَأَمَّا عُزْلَةُ الْأَبْدَانِ وَمُفَارَقَةُ الْجَمَاعَةِ الَّتِي هِيَ الْعَوَامُّ فَإِنَّ مِنْ حُكْمِهَا أَنْ تَكُونَ تَابِعةً لِلْحَاجَةِ وَجَارِيَةً مَعَ الْمَصْلَحَةِ وَذَلِكَ أَنَّ عِظَمَ الْفَائِدَةِ فِي اجْتِمَاعِ النَّاسِ فِي الْمُدُنِ وَتَجَاوُرِهِمْ فِي الْأَمْصَارِ إِنَّمَا هُوَ أَنْ يَتَضَافَرُوا فَيَتَعَاوَنُوا وَيَتَوَازَرُوا فِيهَا إِذْ كَانَتْ مَصَالِحُهُمْ لَا تَكْمُلُ إِلَّا بِهِ وَمَعَايِشُهُمْ لَا تَزْكُو إِلَّا عَلَيْهِ. فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَأَمَّلَ حَالَ نَفْسِهِ فَيَنْظُرَ فِي أَيَّةِ طَبَقَةٍ يَقَعُ مِنْهُمْ وَفِي أَيَّةِ جَنَبَةٍ يَنْحَازُ مِنْ جُمْلَتِهِمْ فَإِنْ كَانَتْ أَحْوَالُهُ تَقْتَضِيهِ الْمَقَامَ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ الْعَامَّةِ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ إِصْلَاحِ الْمِهْنَةِ الَّتِي لَا غُنْيَةَ لَهُ بِهِ عَنْهَا وَلَا يَجِدُ بُدًّا مِنَ الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ فِيهَا وَلَا وَجْهَ لِمُفَارَقَتِهِمْ فِي الدَّارِ وَمُبَاعَدَتِهِمْ فِي السَّكَنِ وَالْجِوَارِ فَإِنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ تَضَرَّرَ بِوَحْدَتِهَ وَأَضَرَّ بِمَنْ وَرَاءَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَأُسْرَتِهِ. وَإِنْ كَانَتْ نَفْسُهُ بِكُلِّهَا مُسْتَقِلَّةً وَحَالُهُ فِي ذَاتِهِ وَذَوِيهِ مُتَمَاسِكَةً فَالِاخْتِيَارُ لَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ اعْتِزَالُ النَّاسِ وَمُفَارَقَةُ عَوَامِّهِمْ فَإِنَّ السَّلَامَةَ فِي مُجَانَبَتِهِمْ وَالرَّاحَةَ فِي التَّبَاعُدِ مِنْهُمْ. وَلَسْنَا نُرِيدُ، رَحِمَكَ اللَّهُ، بِهَذِهِ الْعُزْلَةِ الَّتِي نَخْتَارُهَا مُفَارَقَةَ النَّاسِ فِي الْجَمَاعَاتِ وَالْجُمُعَاتِ وَتَرْكَ حُقُوقِهِمْ فِي الْعِبَادَاتِ وَإِفْشَاءَ السَّلَامِ وَرَدَّ التَّحِيَّاتِ وَمَا جَرَى مُجْرَاهَا مِنْ وَظَائِفِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ لَهُمْ وَوَضَائِعِ السُّنَنِ وَالْعَادَاتِ الْمُسْتَحْسَنَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَإِنَّهَا مُسْتَثْنَاةٌ بِشَرَائِطِهَا جَارِيَةٌ عَلَى سُبُلِهَا مَا لَمْ يَحُلْ دُونَهَا حَائِلُ شُغْلٍ وَلَا يَمْنَعُ عَنْهَا مَانِعُ عُذْرٍ. إِنَّمَا نُرِيدُ بِالْعُزْلَةِ تَرْكَ فُضُولِ الصُّحْبَةِ وَنَبْذَ الزِّيَادَةِ مِنْهَا وَحَطَّ الْعِلَاوَةِ الَّتِي لَا حَاجَةَ بِكَ إِلَيْهَا فَإِنَّ مَنْ جَرَى فِي صُحْبَةِ النَّاسِ وَالِاسْتِكْثَارِ مِنْ مَعْرِفَتِهِمْ عَلَى مَا يَدْعُو إِلَيْهِ شَغَفُ النُّفُوسِ، وَإِلْفُ الْعَادَاتِ وَتَرْكُ الِاقْتِصَادِ فِيهَا وَالِاقْتِصَارِ الَّذِي تَدَعُوهُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ كَانَ جَدِيرًا أَلَّا يَحْمَدَهُ غِبُّهُ وَأَنْ تُسْتَوْخَمَ عَاقِبَتُهُ وَكَانَ سَبِيلُهُ فِي ذَلِكَ سَبِيلَ مَنْ يَتَنَاوَلُ الطَّعَامَ فِي غَيْرِ أَوَانِ جُوعِهِ وَيَأْخُذُ مِنْهُ فَوْقَ قَدْرِ حَاجَتِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُلْبِثُهُ أَنْ يَقَعَ فِي أَمْرَاضٍ مُدْنِفَةٍ وَأَسْقَامٍ مُتْلِفَةٍ وَلَيْسَ مَنْ عَلِمَ كَمَنْ جَهِلَ وَلَا مَنْ جَرَّبَ وَامْتَحَنَ كَمَنْ بَادَهَ وَخَاطَرَ. وَلِلَّهِ دَرُّ أَبِي الدَّرْدَاءِ حَيْثُ يَقُولُ: وَجَدْتُ النَّاسَ أُخْبُرْ تَقْلُهْ. قَالَ: أَنْشَدَنِي ابْنُ أَبِي الدَّقِّ قَالَ: أَنْشَدَنَا شُكْرٌ قَالَ: أَنْشَدَنِي ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا:

[البحر السريع]

مَنْ حَمِدَ النَّاسَ وَلَمْ يَبْلُهُمْ ... ثُمَّ بَلَاهُمْ ذَمَّ مَنْ يَحْمَدُ

وَصَارَ بِالْوَحْدَةِ مُسْتَأْنِسًا ... يُوحِشُهُ الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ

وَلْنَذْكُرِ الْآنَ مَا جَاءَ فِي مَدْحِ الْعُزْلَةِ وَمَا رُوِيَ فِيهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَمَّنْ بَعْدَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَعَمَّنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ وَنُخْبِرُ عَنْ مَحِلِّهَا مِنَ الْحِكْمَةِ وَمَوْقِعِهَا مِنَ الْمَصْلَحَةِ لَيَنْظُرَ الْمَرْءُ لِدِينِهِ وَيُحْسِنَ الِارْتِيَادَ لِنَفْسِهِ وَنَسْأَلَ اللَّهَ السَّلَامَةَ مِنْ شَرِّ هَذَا الزَّمَانِ وَأَهْلِهِ إِنَّهُ لَا خِيفَةَ عَلَى مَنْ حَفِظَهُ وَلَا وَحْشَةَ عَلَى مَنْ عَرَفَهُ

<<  <   >  >>