للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ، قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ قَالَ: ح إِسْحَاقُ وَهُوَ حَازِمُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحُمَيْسِيُّ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: الْحُمَسِيُّ، عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ قَلْبِ آدَمِيٍّ إِلَّا وَهُوَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يُثَبِّتَهُ ثَبَّتَهُ، وَإِذَا شَاءَ أَنْ يُقَلِّبَهُ قَلَّبَهُ، وَإِنَّمَا مَثَلُ الْقَلْبِ كَمَثَلِ رِيشَةٍ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ فِي رِيحٍ عَاصِفٍ، تُقَلِّبُهَا الرِّيَاحُ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَصَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّبَّ بِالْأَصَابِعِ، كَمَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ بِالْيَدِ، وَالسَّمْعِ، وَالْبَصَرِ، فَقَامَتِ ⦗١٢٣⦘ الدَّلَائِلُ عَلَى أَنَّ يَدَهُ وَسَمْعَهُ وَبَصَرَهُ لَيْستْ بِجَوَارِحَ، وَلَا أَعْضَاءٍ، وَلَا أَصَابِعَ، وَلَا أَجْزَاءٍ، إِذْ هُوَ عَزَّ وَجَلَّ وَاحِدٌ أَحَدٌ صَمَدٌ فَرْدٌ بَعِيدٌ عَنْ أَوْصَافِ الْحَدَثِ، وَعَنْ شِبْهِ الْمَخْلُوقِينَ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، فَعَلَيْنَا الْإِيمَانُ بِهِ، وَالْوَصْفُ لَهُ بِمَا وَصَفَ نَفْسَهُ بِهِ، وَنَفْيُ أَوْصَافِ الْحَدَثِ عَنْهُ، وَتَنْزِيهُهُ عَنِ التَّشْبِيهِ، وَالْكَيْفِيَّةِ وَالدَّرَكِ إِلَّا مِنْ حَيْثُ الْإِقْرَارُ بِهِ وَالْإِيمَانُ وَالتَّصْدِيقُ لَهُ، فَكَذَلِكَ مَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْإِصْبَعِ، فَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ لَهُ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: الْإِسْلَامُ لَهُ، وَالْإِيمَانُ بِهِ، وَالتَّصْدِيقُ عَلَى أَنَّهَا صِفَةٌ لَهُ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ، وَيَلِيقُ بِهِ مِنْ غَيْرِ كَيْفِيَّةٍ، وَلَا إِدْرَاكٍ، وَلَا تَشْبِيهٍ. أَوَ هُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُ الْخَلْقِ وَأَعْرَفُهُمْ وَبِأَوْصَافِهِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَعْلَمُكُمُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: ٤] ، فَالْإِصْبَعُ صِفَةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنْ صِفَاتِهِ الْعَدْلُ، وَالْفَضْلُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «بَيْنَ أُصْبَعَيْنِ» أَيْ: بَيْنَ صِفَتَيْنِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَعْنِي الْفَضْلَ وَالْعَدْلَ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَيَعْنِي بِالصِّفَتَيْنِ الْعَدْلَ وَالْفَضْلَ لِقَوْلِهِ: يُقَلِّبُهَا، فَيَكُونُ التَّقْلِيبُ عَنْ حَالَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: بَيْنَ حَالَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ مَرَّةً إِلَى كَذَا، وَمَرَّةً إِلَى كَذَا، كَمَا قَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: «يُقَلِّبُهَا الرِّيحُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ، فَإِذَا قَلَبَ قَلْبَ عَبْدٍ إِلَى هُدًى فَهُوَ فَضْلٌ مِنْهُ، وَإِذَا قَلَبَهُ إِلَى ضَلَالٍ فَهُوَ عَدْلٌ مِنْهُ» ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ» ، وَيَسْأَلُهُ التَّثْبِيتَ، فَاللَّهُ تَعَالَى يُقَلِّبُ قُلُوبَ أَعْدَائِهِ بِعَدْلٍ، وَالْعَدْلُ صِفَةٌ لَهُ، فَهُوَ يُقَلِّبُ قُلُوبَهُمْ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَكُلُّهَا إِرَادَةُ الشَّرِّ بِهِمْ وَالضَّلَالِ لِقَوْلِهِ ⦗١٢٤⦘ عَزَّ وَجَلَّ {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: ٤١] ، فَهُوَ يَجْعَلُ فِي قُلُوبِهِمُ الْمَرَضَ، وَيُقَلِّبُهَا مِنَ الْمَرَضِ إِلَى الزَّيْغِ، وَمِنَ الزَّيْغِ إِلَى الدِّينِ، وَالدِّينُ إِلَى أَنْ يَجْعَلَهَا فِي أَكِنَّةٍ، وَمِنْهَا إِلَى الطَّبْعِ، وَمِنَ الطَّبْعِ إِلَى الْخَتْمِ، وَذَلِكَ عَدْلٌ مِنْهُ، وَهُوَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: ١٠] ، وَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: ٥] ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [المطففين: ١٤] ، وَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} [الأنعام: ٢٥] ، وَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: ١٥٥] ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: ٧] ، فَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِالْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلَصِينَ، وَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ إِذْ هُوَ الْمَالِكُ لَهُمْ، وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، فَعَلَى هَذَا يُقَلِّبُ قُلُوبَ أَعْدَائِهِ، وَمَنْ سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى الشَّقَاءُ فَكَفَرَ وَجَحَدَ وَأَشْرَكَ وَنَافَقَ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ظُلْمِ عِبَادِهِ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَيُقَلِّبُ قُلُوبَ أَوْلِيَائِهِ بِفَضْلِهِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ إِرَادَةَ الْخَيْرِ لَهُمْ لِيَهْتَدُوا وَيُوَفَّقُوا وَيَزِيدَهُمْ إِيمَانًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: ٤] ، وَتَثْبِيتًا لَهُمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: ٢٧] ، فَقُلُوبُ أَوْلِيَائِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلَصِينَ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنْهُ الْحُسْنَى تَتَقَلَّبُ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَاللِّينِ وَالشِّدَّةِ، وَالْوَجَلِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، وَالْقَبْضِ الْبَسْطِ، وَالشَّوْقِ وَالْمَحَبَّةِ، وَالْأُنْسِ وَالْهَيْبَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُقَلِّبُهَا بِفَضْلِهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: ٢] ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: ٢٣] ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات: ٣] ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: ٢] ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: ٢٨] ، وَقَالَ {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الزمر: ٢٢] ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: ١٦٥] وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ، يَقْبِضُ قُلُوبَهُمْ بِالْخَوْفِ مِنْهُ، وَيَبْسُطُهَا بِالْأُنْسِ بِهِ وَالذِّكْرِ لَهُ، فَقُلُوبُ عِبَادِهِ تَتَقَلَّبُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ الْعَدْلِ وَالْفَضْلِ، وَهُوَ يُقَلِّبُهَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ⦗١٢٥⦘ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَمِنْهُ التَّثْبِيتُ وَالْإِزَالَةُ، لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ، وَقُلُوبُ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ تَتَقَلَّبُ بَيْنَ أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ بَيْنَ يَقِينٍ وَاضْطِرَابٍ، وَغَفْلَةٍ وَتَيَقُّظٍ، وَسُكُونٍ إِلَى الدُّنْيَا وَمَيْلٍ إِلَى الْآخِرَةِ، مَرَّةً إِلَى هَذَا، وَمَرَّةً إِلَى هَذَا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّمَا سُمَيَّ الْقَلْبُ قَلْبًا لِأَنَّهُ يَتَقَلَّبُ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَا مِنْ شَيْءٍ أَشَدُّ عَلَى الْعَبْدِ مِنْ حِفْظِ الْقَلْبِ بَيْنَ مَا يَجُولُ حَوْلَ الْعَرْشِ، حَتَّى تَرَاهُ يَجُولُ حَوْلَ الْحُشِّ. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: إِنَّمَا عَلَى الْعَبْدِ ذَمُّ جَوَارِحِهِ، وَحِفْظُ حُدُودِ اللَّهِ، وَكُفُّ النَّفْسِ عَنْ شَهَوَاتِهَا، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ حَفِظَ اللَّهُ تَعَالَى قَلْبَهُ، وَأَصْلَحَ سِرَّهُ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: مَنْ صَلَّحَ بَرَّانِيَّهُ أَصْلَحَ اللَّهُ تَعَالَى جَوَّانِيَّهُ مَعْنَاهُ: مَنْ أَصْلَحَ ظَاهِرَهُ بِذَمِّ جَوَارِحِهِ، وَحِفْظِ حَرَكَاتِهِ، أَعَانَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى حِفْظِ قَلْبِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: اسْتَجْلِبْ نُورَ الْقَلْبِ بِدَوَامِ الْحُزْنِ، وَاسْتَفْتِحْ بَابَ الْحُزْنِ بِطُولِ الذِّكْرِ، وَاطْلُبْ رَاحَةَ الْبَدَنِ بِإِحْجَامِ الْقَلْبِ، وَاطْلُبْ إِحْجَامَ الْقَلْبِ بِتَرْكِ خُلَطَاءِ السُّوءِ، وَقِيلَ: مَوْتُ الْقَلْبِ بِالْجَهْلِ، وَحَيَاةُ الْقَلْبِ بِالْعِلْمِ

<<  <   >  >>