وَأَمَّا فَقْرُ الْآخِرَةِ فَهُوَ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَوَاتِهِ وَصِيَامِهِ وَزَكَاتِهِ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيَقْعُدُ فَيَقْضِي هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ قُضِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَايَا أَخَذَ مِنْ خَطَايَاهُ، فَطُرِحَ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» قَالَ: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ الْفَتْحِ قَالَ: أَبُو عِيسَى قَالَ: ح قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: ح عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. فَهُوَ الْفَقْرُ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنَاهُ، وَأَمَرَ بِالتَّعَوُّذِ مِنْهُ مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقِسْمَيْنِ وَأَمَّا الْقِلَّةُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّكَثُّرَ بِالْمَالِ وَالِاسْتِغْنَاءَ بِالثَّرْوَةِ، وَالسُّكُونَ إِلَيْهِ، وَالِاعْتِمَادَ عَلَيْهِ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء: ٧٧] قَالَ الْحَكِيمُ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنِ اسْتَغْنَى بِمَالِهِ قَلَّ، وَمَنِ اعْتَزَّ بِمَخْلُوقٍ ذَلَّ، فَمَنْ أَقَلُّ مِمَّنِ اسْتَكْثَرَ بِالْقَلِيلِ، وَاسْتَغْنَى مِنَ النَّذْرِ الْحَقِيرِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقِلَّةُ الْقِلَّةَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَمَا عُمِلَ مِنْهَا مَدْخُولٌ فِيهَا، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي صِفَةِ قَوْمٍ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا قَالَ: قَلَّتْ أَذْكَارُهُمْ، وَمَا وَقَعَ مِنْهَا فَمُرَاءَاةٌ، وَالْقَلِيلُ مَعَ الْإِخْلَاصِ كَثِيرٌ، وَالْكَثِيرُ دُونَ الْإِخْلَاصِ قَلِيلٌ، وَأَمَّا الذِّلَّةُ فَالتَّعَزُّزُ بِالْمَخْلُوقِ، وَالِاسْتِظْهَارُ بِالنَّادِي وَالْعَشِيرِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق: ١٨] ، وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا ⦗١٣٧⦘ الْأَذَلَّ} [المنافقون: ٨] ، فَكَانَ الْأَذَلُّ هُوَ الْأَعَزَّ عِنْدَ نَفْسِهِ بِكَثْرَةِ أَتْبَاعِهِ وَكَثْرَةِ أَنْصَارِهِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اعْتَزَّ بِالْمَخْلُوقِ أَذَلَّهُ اللَّهُ» ، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اعْتَزَّ بِمَخْلُوقٍ ذَلَّ، وَمَنِ اهْتَدَى بِرَأْيِهِ ضَلَّ» ، فَالذِّلَّةُ هِيَ التَّعَزُّزُ بِمَنْ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَلَا يَمْلِكُ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا، فَهُوَ كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: ٧٣] وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الذِّلَّةُ الشُّذُوذَ عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَالِاعْتِزَالَ عَنِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ، وَاتِّبَاعَ الْهَوَى بِمُخَالَفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالِاتِّبَاعَ لِغَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} [النساء: ١١٥] ، فَلَا أَذَلَّ مِمَّنْ رُدَّ إِلَى نَفْسِهِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، وَانْفَرَدَ فِي مُتَابَعَةِ هَوَاهُ، وَظُلْمَةِ رَأْيِهِ، وَانْقَطَعَ عَمَّنْ لَهُ الْعِزَّةُ، فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ، فَمَنِ انْقَطَعَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِإِعْرَاضِهِ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَعْرَضَ عَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَرْكِهِ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَالَفَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِاتِّبَاعِهِ غَيْرَ سَبِيلِهِمْ، فَهُوَ الْوَحِيدُ الْعَزِيزُ، الشَّرِيدُ، الطَّرِيدُ، الْحَقِيرُ، الذَّلِيلُ، النَّذْرُ، الْقَلِيلُ، جَلِيسُ الشَّيْطَانِ، وَبَغِيضُ الرَّحْمَنِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ الذِّئْبَ يَأْخُذُ الشَّاةَ وَالْعَاصِيَةَ» فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الذِّلَّةُ الَّتِي أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّعَوُّذِ مِنْهَا مُتَابَعَةَ الْهَوَى فِي دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالتَّعَزُّزَ بِمَا دُونَ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: ١٣] وَقَوْلُهُ: «أَنْ تَظْلِمَ، أَوْ تُظْلَمَ» ، وَالظُّلْمُ أَنْوَاعٌ، مِنْهَا: الشِّرْكُ، وَهُوَ أَعْظَمُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: ١٣] وَمِنْهَا ظُلْمُ عِبَادِ اللَّهِ، وَهُوَ الْإِفْلَاسُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، وَالْمَصِيرُ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْهَا ظُلْمُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ، وَهُوَ الْحَيْرَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ؛ لِأَنَّ مَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ مَنَعَهَا حَقَّهَا الَّذِي أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ لَهَا مِنْ ⦗١٣٨⦘ إِتْيَانِ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، فَأَتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِلْوًا عَنِ الْأَعْمَالِ الَّتِي نُورُهَا يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، وَبِأَيْمَانِهِمْ، فَبَقِيَ فِي ظُلْمَةٍ، فَإِنْ قِيلَ: ارْجِعْ وَرَاءَكَ، فَالْتَمِسْ نُورًا، فَقَدْ خَابَ، وَضَلَّ، وَإِنْ تَدَارَكَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ أَضَاءَ لَهُ إِيمَانَهُ، وَأَنَارَ لَهُ تَوْحِيدَهُ، فَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فَمَنْ ظَلَمَ فَاتَتْهُ آَخِرَتُهُ الَّتِي لَهَا مَعَادُهُ، فَخَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا، وَضَلَّ فِي النَّارِ ضَلَالًا بَعِيدًا، إِذَا ضَرَّ بِهَا، فَنُوقِشَ، وَعُذِّبَ، أَوْ يَرْحَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى، إِنْ شَاءَ بِرَحْمَتِهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَإِنْ ظَلَمَ أَحَلَّ بِدُنْيَاهُ الَّتِي فِيهَا مَعَاشُهُ، فَشَقِيَ، وَتَعِبَ، أَوْ يَرْفُقُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَاللَّهُ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ. فَفِي أَمْرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّعَوُّذِ مِنْ أَنْ تَظْلِمَ، أَوْ تُظْلَمَ إِشَارَةٌ إِلَى ضِعْفِ الْعَبْدِ، وَفَقْرِهِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ مُرَافَقَةِ الَّتِي يَصْلُحُ بِهَا دِينُهُ، وَتَقُومُ بِهَا نَفْسُهُ، وَيَصُونُ بِهَا عِرْضَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: ٢٨] ، وَلَا بُدَّ لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَشَفَاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَعَمَلٍ صَالِحٍ قَدَّمَهُ لِيَنَالَ بِهِ ثَوَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: ١٥]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute