للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَامِدِ الْقَوَارِيرِيُّ، ح أَحْمَدُ بْنُ سَهْلٍ، ح عَلِيُّ بْنُ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ قَالَا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ، قَالَ: ح زَمْعَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ وَهْرَامٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَلَسَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُونَهُ، فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْهُمْ سَمِعَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ، فَتَسَمَّعَ حَدِيثَهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَجَبًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اتَّخَذَ مِنْ خَلْقِهِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَقَالَ آخَرُ: مَاذَا بِأَعْجَبَ مِنْ أَنْ كَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى تَكْلِيمًا. وَقَالَ آخَرُ: فَعِيسَى كَلِمَةُ اللَّهِ، وَرُوحُهُ، وَقَالَ آخَرُ: آدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ. فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَلَّمَ، وَقَالَ: «قَدْ سَمِعْتُ كَلَامَكُمْ وَعَجَبَكُمْ، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللَّهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَمُوسَى نَجِيُّ اللَّهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَعِيسَى كَلِمتُهُ وَرُوحُهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَآدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ، أَلَا وَأَنَا حَبِيبُ اللَّهِ، وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا حَامِلُ لِوَاءِ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُحَرِّكِ حِلَقَ الْجَنَّةِ، وَيُفْتَحُ الْبَابُ لِي، فَيُدْخِلُنِيهَا، وَمَعِي فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ، وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا ⦗٢٧٧⦘ أَكْرَمُ الْأَوَّلِينَ، وَالْآخِرِينَ عَلَى اللَّهِ، وَلَا فَخْرَ، إِنِّي لَسْتُ أَفْتَخِرُ بِذِي عَلَيْكُمْ فَخْرَ تَعْظِيمٍ، وَتَرَفُّعٍ، وَتَكَبُّرٍ» وَلَكِنْ كَانَ فَخْرُهُ بِاللَّهِ، وَتَكَلَّمُوا فِيهِ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ. فَالْخُلَّةُ تَخْتَصَّ بِمَعْنًى، وَالْمَحَبَّةُ تَخْتَصُّ بِمَعْنًى آخَرَ، فَالْمَحَبَّةُ هِيَ الْإِيثَارُ، وَالْمُوَافَقَةُ، وَالْإِقْبَالُ عَلَى الْمَحْبُوبِ، وَخَاصَّتُهُ الْوَجْدُ بِالْمَحْبُوبِ، وَالرِّقَّةُ لَهُ بَعْدَ الْمَيْلِ إِلَيْهِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ، وَالْإِيثَارِ لَهُ، وَالْخُلَّةُ هِيَ الِاخْتِصَاصُ، وَالْمُدَاخَلَةُ، يُقَالُ: خَلَّلَ أَصَابِعَهُ إِذَا أَدْخَلَ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ، وَخَلَّلَ لِحْيَتَهُ إِذَا أَدْخَلَ أَصَابِعَهُ فِيهَا، فَكَأَنَّ الْمُتَخَالِلَيْنِ يَتَدَاخَلَانِ بَيْنَهُمَا فِي وُقُوفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا يَسْتُرُ خَلِيلَهُ، وَيَطَّلِعُ عَلَى مَغِيبِ خَلِيلِهِ، وَخَاصَّةِ أَمْرِهِ مِمَّا يَسْتُرُهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَا يُطْلِعُ عَلَيْهِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ، وَهَذَا خَاصِّيَّةُ الْخُلَّةِ، قَالَ الشَّاعِرُ:

[البحر الخفيف]

قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي ... وَبِذَا سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلَا

فَإِذَا مَا نَطَقْتُ كُنْتَ حَدِيثِي ... وَإِذَا مَا سَكَتُّ كُنْتَ الْغَلِيلَا

فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا» ، أَيْ: لَوْ كُنْتُ مُطْلِعًا أَحَدًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى سِرِّي، وَمُوَقِّفًا أَحَدًا بِمَغِيبِ أَمْرِي، وَمَا أَجُنُّهُ فِي ضَمِيرِي، لَأَطْلَعْتُ عَلَيْهِ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلكِنْ لَا يَطَّلِعُ عَلَى سِرِّي إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، وَلَا أُظْهِرُ مَا أَسْتُرُهُ، وَلَا أَكْشِفُ مَا أُضْمِرُهُ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ؛ لِأَنِّي خَلِيلُهُ، وَإِنَّمَا يَقِفُ عَلَى سِرِّ الْمَرْءِ خَلِيلُهُ دُونَ غَيْرِهِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِي مَعَ اللَّهِ وَقْتًا لَا يَسْمَعُنِي فِيهِ غَيْرُهُ» ، أَيْ: لَا يَتَخَلَّلُ بَيْنِي وَبَيْنَ رَبِّي دَخِيلٌ، وَقَدْ أَبَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُطْلِعَ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ عَلَى مَا أَسَرَّهُ إِلَى خَلِيلِهِ وَحَبِيبِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: ١٠] ، سَتَرَ عَلَى الْعَالَمِينَ مَا أَسَرَّهُ إِلَيْهِ، وَأَوْرَدَهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: ٩] ، أَخْرَجَ عَنِ الْأَوْهَامِ، وَتَوَرَّدَ إِلَيْهِ، وَطَوَى عَنِ الْأَفْهَامِ سِرَّهُ إِلَيْهِ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يُبَلِّغَ مَا أَنْزَلَ إِلَيْهِ دُونَ مَا تَوَقَّفَ بِسِرِّهِ إِلَيْهِ، فَقَالَ: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكِ} [المائدة: ٦٧] ، وَلَمْ يَقُلْ: بَلِّغْ مَا تَعَرَّفْنَا بِهِ إِلَيْكَ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ ⦗٢٧٨⦘ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} [الحاقة: ٤٤] قَالَ: لَوْ أَظْهَرَ لِغَيْرِنَا مَا أَسْرَرْنَا إِلَيْهِ: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: ٤٦] ، إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ بَيْنَ الْخَلِيلَيْنِ ثَالِثٌ، أَوْ يَقِفَ عَلَى سِرِّ الْمُحِبَّيْنِ أَحَدٌ، لَا يَرَى لِمَا أَضْمَرَ فِي سِرِّهِ مَعْنًى لِغَيْرِهِ، وَأَخْفَى فِي نَفْسِهِ شَرًّا لِجِنْسِهِ، غَارَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ سِرٌّ سِوَاهُ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: ٣٧] ، أَظْهَرَ لِلنَّاسِ مَا أَخْفَاهُ فِي نَفْسِهِ غَيْرَةً عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ فِي سِرِّهِ غَيْرُهُ، وَسَتَرَ عَنِ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ مَا وَرَّاهُ مِنْ عَظِيمِ آيَاتِهِ، وَلَطَائِفِ كَرَامَاتِهِ، فَقَالَ: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: ١٨] انْحَسَرَتْ أَوْهَامُ الْخَلَائِقِ فِي الْوُقُوفِ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ: {الْكُبْرَى} [النجم: ١٨] فَطَوَى اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - عَنِ الْخَلْقِ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلِيلِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى سِرِّهِ إِلَّا الْخَلِيلُ الَّذِي هُوَ الْجَلِيلُ، فَقَالَ: لَوْ جَازَ لِي أَنْ أَتَّخِذَ خَلِيلًا فَيَقِفَ عَلَى سِرِّي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، إِذْ كَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَقْرَبَ الْخَلْقِ سِرًّا مِنْ سِرِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَلَا يُرَى إِلَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَفْضُلْكُمْ بِصَوْمٍ وَلَا صَلَاةٍ وَلَكِنْ بِشَيْءٍ وَقَرَ فِي قَلْبِهِ» طَوَى عَنِ النَّاسِ سِرَّ أَبِي بَكْرٍ، كَمَا طَوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ سِرَّ نَفْسِهِ، وَبَذْلَ الْمَحَبَّةَ مِنْهُ لِلنَّاسِ، فَقَالَ: «إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا» يَعْنِي الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَأُسَامَةَ.

<<  <   >  >>