ح نَصْرُ بْنُ الْفَتْحِ قَالَ: ح أَبُو عِيسَى، قَالَ ح هَنَّادٌ قَالَ: ح وَكِيعٌ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبَانَ، وَهُوَ الرَّقَاشِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: التَّرْغِيبُ فِي الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَالْإِعْرَاضِ عَنْهَا، وَالرَّغْبَةُ فِي الْآخِرَةِ وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهَا، وَالتَّشْجِيعُ فِي تَرْكِ الدُّنْيَا بِمَعْنَى الْإِنْفَاقِ مِمَّنْ هِيَ فِي يَدَيْهِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْهَا مِمَّنْ لَيْسَتْ عِنْدَهُ كَأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا، وَأَقْبَلَ عَلَى الْآخِرَةِ، رُزِقَ الْفَرَاغَ وَالتَّنَعُّمَ وَجَمْعَ الشَّمْلِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا أَيِ الرِّفْقُ فِيهَا وَالْمَهْنَأُ مِنْهَا فَيَكُونُ لَهُ الْمَهْنَأُ دُونَ الشُّغُلِ، وَالرِّفْقُ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ فَهُوَ غَنِيٌّ وَإِنْ عَدِمَ الْقُوتَ، وَمَنْ أَقْبَلَ عَلَى الدُّنْيَا وَأَعْرَضَ عَنِ الْآخِرَةِ شُغِلَ بِمَا لَا يَجْرِي، وَتَعِبَ فِيمَا لَا يُغْنِي عَنْهُ، فَتَزْدَادُ الدُّنْيَا عَنْهُ بُعْدًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُصِيبُ مِنْهَا إِلَّا الْمَقْدُورَ، وَالْمَقْدُورُ لَا يُغْنِيهِ، وَإِنْ كَثُرَ لِغَلَبَةِ الْحِرْصِ عَلَيْهِ وَالتَّأَسُّفِ عَلَى فَوْتِ مَا لَمْ يُقَدَّرْ لَهُ. تَعَبُ الطَّلَبِ، وَالْخَيْبَةُ فِي التَّعَبِ، فَهُوَ فَقِيرٌ وَإِنْ مَلَكَ الدُّنْيَا. وَالْمَعْنَى الْآخَرُ: تَنْبِيهٌ وَإِرْشَادٌ فِي الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ، وَأَنَّهُ أَسِيرُ الْقُدْرَةِ سَلِيبُ الْقَبْضَةِ، وَإِنَّ أَفْعَالَهُ تَبَعٌ لِفِعْلِ اللَّهِ بِهِ، وَإِنَّهَا إِنَّمَا تَكُونُ بِاللَّهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ الْعَبْدُ مَأْخُوذًا عَنْ أَوْصَافِهِ مَصْرُوفًا عَنْ نَظَرِهِ إِلَى أَفْعَالِهِ مُعْتَرِفًا بِعَجْزِهِ، مُقِرًّا بِاضْطِرَارِهِ، عَالِمًا بِضَرُورَتِهِ وَافْتِقَارِهِ، كَأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّمَا تَكُونُ الْآخِرَةُ هَمَّهُ مَنْ جَعَلَ اللَّهُ الْغَنَاءَ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْبِلُ عَلَى الْآخِرَةِ إِلَّا مَنِ اسْتَغْنَى عَنِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الدُّنْيَا حِجَابُ الْآخِرَةِ فَإِذَا رُفِعَ الْحِجَابُ عَنْ بَصَرِ الْقَلْبِ رَأَى ⦗٣٣٤⦘ الْآخِرَةَ بِعَيْنِ إِيقَانِهِ، وَمَنْ نَظَرَ إِلَى الْآخِرَةِ شُغِلَ عَنِ الدُّنْيَا، صَارَتْ مَرْفُوعَةً مِنْهُ مَتْرُوكَةً عَنْهُ، قَالَ حَارِثَةُ: عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ، إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ. فَمَنْ أَغْنَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الدُّنْيَا بِالزُّهْدِ فِيهَا، وَالرَّغْبَةِ عَنْهَا صَارَتِ الْآخِرَةُ هَمَّهُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ حَرِيصٌ، وَالنَّفْسَ رَاغِبَةٌ , إِمَّا تَرْغَبُ إِلَى الدُّنْيَا أَوْ إِلَى الْآَخِرَةِ، فَإِذَا حُجِبَتْ عَنِ الدُّنْيَا بِالْعُزُوفِ عَنْهَا، وَالِاسْتِغْنَاءِ مِنْهَا افْتَقَرَتْ إِلَى الْآخِرَةِ، وَرَغِبَتْ فِيهَا. قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا أَفْضَتِ الْخِلَافَةُ إِلَيْهِ: قَدْ زَهِدْتَ فِي الدُّنْيَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: إِنَّ أَنْفُسَنَا تَوَّاقَةٌ تَاقَتْ إِلَى الدُّنْيَا، فَلَمَّا أَصَابَتْهَا تَاقَتْ إِلَى الْآخِرَةِ. فَمَنْ جَعَلَ اللَّهُ الْغَنَاءَ فِي قَلْبِهِ وَجَعَلَ لَهُ، يَسَّرَهُ بِالِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الدُّنْيَا وَحُطَامِهَا صَارَتْ هِمَّتُهُ الْآخِرَةَ وَمَا قُدِّرَ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا، وَالرِّفْقِ فِيهَا، يَأْتِيهِ فِي رَاحَةٍ مِنْ بَدَنِهِ وَفَرَاغٍ مِنْ سِرِّهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: «رَاغِمَةٌ» ، أَيْ تَأْتِيهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ لَهَا؛ لِأَنَّهَا قَلَّ مَا يُؤْتَى طِلَابُهَا إِلَّا بِجَهْدٍ وَطَلَبٍ لَهَا حَثِيثٍ، فَإِذَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ فَكَأَنَّهَا جَاءَتْ رَاغِمَةً صَاغِرَةً ذَلِيلَةً، وَمَنْ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ إِلَى الدُّنْيَا وَحَجَبَهُ عَنِ الْآخِرَةِ بِمَيْلِهِ إِلَى الدُّنْيَا، صَارَتِ الدُّنْيَا نَصْبَ عَيْنَيْهِ، وَالدُّنْيَا فَقْرٌ كُلُّهَا؛ لِأَنَّ حَاجَةِ الرَّاغِبِ فِيهَا لَا تَقْتَضِي , فَهِيَ الْعِطَاشُ كُلَّمَا ازْدَادَ شَرَابًا ازْدَادَ عَطَشًا، فَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا نُصْبَ عَيْنَيْهِ صَارَ الْفَقْرُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَقُرَ سِرُّهُ وَاخْتَلَفَتْ طُرُقُهُ، وَتَشَتَّتَ هِمَّتُهُ، وَتَعِبَ بَدَنُهُ، وَشَرِهَتْ نَفْسُهُ، وَازْدَادَتِ الدُّنْيَا عَنْهُ بُعْدًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْتِيهِ مِنْهَا إِلَّا الْمَقْدُورُ، وَالْمَقْدُورُ مِنْهَا لَا يُغْنِيهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: مَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ هَمَّهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَكُلٌّ لَا يَفُوتُهُ مَقْدُورُهُ مِنَ الدُّنْيَا. نَبَّهَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَحْضِ الْعُبُودِيَّةِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: مَنْ أَهَمَّتْهُ الْآخِرَةُ فَلْيَرَ فَضْلَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي وَضْعِ الْغَنَاءِ فِي قَلْبِهِ حَتَّى رَفَضَ الدُّنْيَا، وَأَقْبَلَ عَلَى الْآخِرَةِ، وَمَنْ أَهَمَّتْهُ الدُّنْيَا فَلْيَفْتَقِرْ إِلَى اللَّهِ بِالدُّعَاءِ وَإِزَالَةِ الْفَقْرِ مِنْ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَالْحِرْصِ مِنْ قَلْبِهِ: وَالتَّعَبِ مِنْ بَدَنِهِ، وَالشُّغُلِ مِنْ قَلْبِهِ. فَكَأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلَّ عَلَى الِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا فِيمَا يَرْضَى بِالْحَمْدِ لَهُ، وَرُؤْيَةِ الْفَضْلِ مِنْ عِنْدِهِ، وَالرَّغْبَةِ إِلَيْهِ فِي الثَّبَاتِ عَلَيْهِ، فَقَدْ قَالَ {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: ٣٥] وَقَالَ {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: ٧]
⦗٣٣٥⦘ وَفِيمَا يَكْرَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ َلهُ والِاسْتِعَانَةِ بِهِ فِي نَقْلِ مَا يَكْرَهُ، لَا مَا يُحِبُّ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: ١١] وَقَالَ تَعَالَى فِي الِاسْتِغَاثَةِ بِهِ {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: ٦٢] الْآيَةَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute