حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ، قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ قَالَ: ح أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَلْيَنُ قُلُوبًا، وَأَرَقُّ أَفْئِدَةً، الْإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ، وَرَأْسُ الْكُفْرِ قِبَلَ الْمَشْرِقِ» قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَصَفَهُمْ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِلِينِ الْقُلُوبِ وَرِقَّتِهَا، ثُمَّ نَسَبَ الْإِيمَانَ وَالْحِكْمَةَ إِلَيْهِمْ، كَأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ بِنَاءَ الْإِيمَانِ عَلَى الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالرِّقَّةِ عَلَيْهِمْ؛ إِذْ كَانَ ذَلِكَ صِفَةَ مَنْ نُسِبَ الْإِيمَانُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: «الْإِيمَانُ يَمَانٍ» . وَالْحِكْمَةُ هِيَ: الْإِصَابَةُ لِمَا يَرْضَى بِهِ اللَّهُ وَمَا يُحِبُّهُ، وَتَرْكُ مَا يَسْخَطُهُ وَيَكْرَهُهُ، وَلَا يُنَالُ ذَلِكَ إِلَّا بِرِقَّةِ الْقَلْبِ وَصَفَائِهِ، فَيَشْهَدُ فِيهِ زَوَاجِرَ الْحَقِّ؛ لِأَنَّ زَوَاجِرَ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ، فَمَنْ كَانَ أَصْفَى قَلْبًا فَإِنَّهُ أَحْسَنُ إِدْرَاكًا لِذَلِكَ الزَّاجِرِ، وَأَشَدُّ إِصَابَةً لَهُ، لِذَلِكَ نُسِبَ الْحِكْمَةُ إِلَى مَنْ رَقَّ قَلْبُهُ، وَيَكُونُ ذِكْرُ الْقَلْبِ وَالْفُؤَادِ عِبَارَةً عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفُؤَادُ عِبَارَةً عَنْ بَاطِنِ الْقَلْبِ؛ فَإِنَّ الْحُكَمَاءَ قَالُوا: الصَّدْرُ خَارِجَ الْقَلْبِ، وَالْفُؤَادُ دَاخِلَهُ، فَوَصَفَ الْقَلْبَ بِاللِّينِ، وَالشَّيْءُ اللَّيِّنُ يَنْثَنِي وَيَنْعَطِفُ، وَهُوَ التَّقَلُّبُ، وَسُمِّيَ الْقَلْبُ قَلْبًا لِأَنَّهُ مُتَقَلِّبٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّمَا سُمِّيَ الْقَلْبُ قَلْبًا لِأَنَّهُ يَتَقَلَّبُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الْقَلْبِ مَثَلُ رِيشَةٍ بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ تُقَلِّبُهَا الرِّيَاحُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ» ، وَالْمُتَقَلِّبُ يَتَقَلَّبُ إِلَى كَذَا، فَكَأَنَّهُ وَصَفَ أَهْلَ الْيَمَنِ بِأَنَّ قُلُوبَهُمْ أَلْيَنُ وَأَكْثَرُ تَقَلُّبًا وَتَثَنِّيًا، وَأَنَّ تَثَنِّيَهَا وَانْقِلَابَهَا ⦗٧٣⦘ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْحِكْمَةِ أَكْثَرُ مِنْهُمَا إِلَى غَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّ أَفْئِدَتَهُمْ أَرَقُّ فَهِيَ أَكْثَرُ شُهُودًا لِلْغَيْبِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ الرَّقِيقَ أَنْفَذُ فِي خِلَالِ الْأَشْيَاءِ الْمَانِعَةِ، وَالْحُجُبِ السَّاتِرَةِ مِنَ الشَّيْءِ الْغَلِيظِ، وَمَنْ خَرَقَ الْحُجُبَ أَدْرَكَ الْإِيمَانَ وَحَقِيقَتَهُ، وَالْحِكْمَةَ الَّتِي هِيَ التَكَلُّمُ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَشَارَ بِلِينِ الْقَلْبِ أَيْ: خَفْضَ الْجَنَاحِ وَلِينَ الْجَانِبِ، وَالِانْقِيَادَ وَالِاحْتِمَالَ وَتَرْكَ الْعُلُوِّ وَالتَّرَفُّعِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ إِنَّمَا تَظْهَرُ مِمَّنْ لَانَ قَلْبُهُ، وَهِيَ أَوْصَافُ الظَّاهِرِ، وَأَشَارَ بِرِقَّةِ أَفْئِدَتِهِمْ إِلَى شَفَقَتِهِمْ عَلَى الْخَلْقِ، وَالرَّحْمَةِ لَهُمْ، وَالرَّأْفَةِ بِهِمْ، وَالتَّعَطُّفِ عَلَيْهِمْ، وَالنُّصْحِ لَهُمْ، وَأَنْ يُحِبُّوا لَهُمْ مَا يُحِبُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَهَذِهِ أَوْصَافُ الْبَاطِنِ، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُمْ أَحْسَنُ أَخْلَاقًا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا» فَقَوْلُهُ: «الْإِيمَانُ يَمَانٍ» أَيْ: أَهْلُ الْيَمَنِ أَكْمَلُ النَّاسِ إِيمَانًا، وَتَكُونُ الْحِكْمَةُ مِنْ أَوْصَافِ مَنْ كَمُلَ إِيمَانُهُ وَيَقِينُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفُهُ لَهُمْ بِلِينِ الْقُلُوبِ إِشَارَةً إِلَى قَبُولِ الْحَقِّ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْيَمَنِ أَجَابُوا إِلَى الْإِسْلَامِ بِالدَّعْوَةِ دُونَ الْمُحَارَبَةِ وَالْقِتَالِ، فَقَبِلُوا الْحَقَّ لِلِينِ قُلُوبِهِمْ؛ لِأَنَّ مَنْ قَسَا قَلْبُهُ لَا يَقْبَلُ الْحَقَّ وَإِنْ كَثُرَتْ دَلَائِلُهُ، وَقَامَتْ حُجَجُهُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: ٧٤] ، أَخْبَرَ أَنَّ مَنْ قَسَا قَلْبُهُ لَا يَرْجِعُ إِلَى الْحَقِّ، وَإِنْ ظَهَرَتْ أَعْلَامُهُ، وَالْآيَاتُ إِنَّمَا يَعْقِلُهَا مَنْ كَانَتْ صِفَتُهُ ضِدَّ صِفَةِ الْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ، وَلِذَلِكَ نَسَبَ الْإِيمَانَ إِلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ قَبِلُوهُ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ، وَنَسَبَهُمْ إِلَى الْحِكْمَةِ؛ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ هِيَ الْإِصَابَةُ لِلْحَقِّ، فَأَصَابُوا الْحَقَّ، فَآمَنُوا لِلِينِ قُلُوبِهِمْ وَمُوَاتَاتِهِمْ، وَقَبُولِهِمُ الْحَقَّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «أَرَقُّ أَفْئِدَةً» إِشَارَةً إِلَى تَوَسُّطِهِمْ فِي مُشَاهَدَاتِ الْقُلُوبِ، وَمُنَازَلَاتِ الْأَسْرَارِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْفُؤَادَ عَيْنُ الْقَلْبِ، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ ⦗٧٤⦘ إِلَى أَنَّ فِيَ نَظَرِهِمْ إِلَى أَحْوَالِ الْغُيُوبِ رِقَّةً، وَأَنَّهُمْ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ لَيْسُوا بِذَلِكَ، وَبِذَلِكَ تَشْهَدُ أَحْوَالُهُمْ، وَيَعْرِفُهَا مَنْ شَاهَدَهُمْ، كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُمْ فِي الْأَحْوَالِ الظَّاهِرَةِ أَقْوَى مِنْهُمْ فِي الْأَحْوَالِ الْبَاطِنَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute