للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

رجلين فهو رجل») (١). وقطعًا هذا كلام لا يمكن فهمه إلا في ضوء سياق الحال الذي ترد فيه الجملة.

ونجد في نصوص أخرى أَنَّ سيبويه «يتخَيَّل السِّياق» الذي دارت فيه الجملة، ويتخَيَّل حوارا ومسرحا لغويا دارت فيه الأحداث من خلاله يقوم بالتوجيه النَّحْوِيّ.

ــ مثال ذلك في أحد أبواب الكتاب يناقش سيبويه إعراب النكرة غير المقصودة والشبيه بالمضاف في أسلوب النداء، فيذكر بيت الشاعر ذي الرُّمَّة:

أَدارًا بِحُزوى هِجتِ لِلعَينِ عَبرَةً ... فَماءُ الهَوى يَرفَضُّ أَو يَتَرَقرَقُ [بحر الطويل]

ويستشهد به على نصب «دارا» ولفظها نكرة، ولَكِنَّها طالت بما بعدها من الصفة وهي الجار والمجرور؛ فصارت بمنزلة المضاف) (٢).

ولكن في بيت مشابه للبيت السابق للشاعر الطِّرِمَّاح يقول فيه:

يا دارُ أَقوَت بَعدَ أَصرامِها ... عامًا وَما يَعْنيك مِن عامِها [بحر السريع]

نجد سيبويه يقول في التوجيه الإعرابِيّ هنا: «فَإِنَّما ترك التنوين فيه؛ لأنَّهُ لم يجعل أقوت من صفة الدار، ولَكِنَّه قال: يا دارُ، ثُمَّ أقبل بعدُ يحدث عن شأنها، فكَأَنَّه لما قال: يا دارُ، أقبل على إنسان، فقال: أقوتْ وتغيرتْ، وكَأَنَّه لما ناداها قال: إنَّها أقوت يا فلان. وإِنَّمَا أردتُ بهذا أَنْ تعلم أَنَّ أقوت ليس بصفة») (٣).

نلاحظ هنا كيف وجه إعراب المنادى للبناء على الضم من خلال رسم سياق حال، تخيَّل فيه الشاعر بعد أَنْ نادى الدار، يتَّجه إلى إنسان تخيل وجوده ويقول له: إنها تغيرت وأقوت. ويستحضر سيبويه الحالة النفسِيَّة للشاعر والمقام المناسب. ولا شك أَنَّ المقام هنا مقام حزن وألم وأنَّ الشاعر ظل فترة زمَنِيَّة بعد ندائه للمنادى؛ ولما لم يجد ردًّا له تحول عنه، وأنَّ الشاعر يجد من خلال تخيّل هذا الإنسان ومن خلال الحديث معه متنفسا لمشاعره.

ــ ويقول في موضع آخر مُتَخَيِّلًا حوارًا: «وقد يكون مررت بعبد الله أخوك، كَأَنَّه قيل له: من هو؟ أو من عبد الله، فقال: أخوك») (٤). ففي الجملة التي وردت هنا يجوز في «أخوك» الجر على

البدل، وإذا تَخَيَّلْنا حوارًا وسياقًا فيجوز الرفع على الخبرِيِّة كما فعل سيبويه.


(١) سيبويه: الكتاب، ٢/ ٩٤
(٢) ينظر الحاشية ذات الرَّقْم ٢ من هوامش المحقق ٢/ ١٩٩
(٣) سيبويه: الكتاب، ٢/ ٢٠١
(٤) سيبويه: الكتاب، ٢/ ١٦

<<  <   >  >>