بإجازَةٍ مُطَوَّلةٍ، هي نَفْس إجازة الشَّيْخ سَعْد بن عَتِيْق لَهُ، وزادَ فيها بَعْض مَشَايخه الذَّيْن أخَذَ عَنْهم وتَفَقَّه بهم، مختومةً بختمه الذاتي، وقد اتَّصل لي بوَسَاطَته مُسَلْسَل التَفَقُّه في المَذْهب الحَنْبَليِّ من طَرِيْقَي صاحِب "الإقناع" و"المُنْتَهى" وكُنْتُ أسْهر عنده في القِراءَة والبَحْث إلى السَّاعة الخَامِسَة أو السَّادِسَة لَيْلًا، وكان مُكْرِمًا لطُلَّاب العِلْم، ذا شفقة عَلَيْهِم، وتفَقَّد لَهُم إذا غَابوا، لا يَمَلُّ من كَثْرة التَّدْرِيْس، ذا تَثَبُّتٍ في الجَوَابِ، وتَحَرٍّ للصَّوَاب إذا سُئِلَ، له أجْوِبَةٌ سَدِيْدةٌ على مَسائل عَدِيْدَة، جَمَعَها بَعْض الطَّلَبَة على حِدَه.
وَلِيَ القَضاء في بُلْدَان سديْر في صَفَر، سنةَ أربع وعِشْريْن وثلاث مئةٍ وأَلْفٍ، ثم أُضيف إليْه قَضَاءُ بَلَد المَجْمَعة وأعَمَالها والغاط بَعْد عَزْل سَلَفِهِ الشَّيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى قاضِيْها، وذلك بَعْد قَتْل عَبْد العَزيز بن رَشِيْد وبُطْلَان بَيْعَتِه، فأرسَلُوا وَفْدًا للإمام عَبْد العَزِيْز، وطَلَبُوا الدُّخُول في طَاعَته، فأجابَهُم إلى ذلك، ووَلِي المُتَرْجَمُ من وَقْتِئذٍ، فكان محمُودَ السِّيْرة في وِلَايَته، بَصِيْرًا بفصل القَضَايا وإيْصال الحُقُوق إلى مستحقيها، لا يَتَأخَّر عن الحْكمِ بالحَقِّ إذا ظَهَر له، وكان يُؤْثِر الإصلاح بَيْن الخَصْمَيْن، سيَّما إذا لم يَظْهر له وَجْه الصَّواب، حتَّى إنَّهُ رُبَّما أخَّر الفَصْل في القَضِية أيّامًا حتَّى يَمِيْل الخَصْمان إلى الصُّلْح، وقد لاحَظْتُ ذلك منه مِرَارًا، وكنت أقُول في نَفْسي: هذا أمرٌ لا يَنْبَغي، لأنَّ فيه تَعْطِيلًا وتَرْكًا للمَشاكِل بدُوْن حَلًّ، حتَّى وَقَفْت على قَوْل أمِير المُؤْمِنين عُمَر بن الخَطَّاب رَضِي الله عَنْه:(رُدُّوا الخُصوم حتَّى يَصْطَلِحُوا، فإنَّ فَصْل القَضَاء يُحْدِث بَيْنَ القَوْمِ الضَّغَائن)، وفي لَفْظٍ:(رُدُّوا الخُصُوم لعَلَّهم أن يَصْطَلِحوا، فإنَّه آثَر للصدق، وأقلُّ للخِيَانة) وفي لفظٍ: (رُدُّوا الخُصُوم إذا كانت بَينَهُم قَرَابةٌ، فإن فَصْل القَضَاء يُوْرِث بَيْنَهُم الشَّنَآن) فرَجَعْتُ عن قَوْلي، وعَلِمْت أنَّ ما عَلَيْه الشَّيخ هُوَ الحَقُّ، وكان محبّبًا عِنْد الخَاصِّ والعَامِّ، عَلَيْه هَيْبَةٌ ووَقَارٌ، حج مَرَّاتٍ وزَار المَسْجِد النَّبَويَّ سنةَ ثمانٍ وأرْبَعْين وثلاث مئة وألْفٍ، وقَامَ في فتنةِ فَيْصل الدويش وسُلْطَان بن بجاد مقامات تُذْكر فتُشْكر، وسَعى بَيْنَهم وبَيْن وَلِيَّ الأمْر بالصُّلْح، حِرْصًا على حَقْنِ الدِّماء، فما تَمَّ لَهُ ما أرَاد، لما سَبَق به القَضاءِ في الأَزل، وكان له المقام الأرْفع، ومَزَيْدُ الاحتِرام عند الإمام عَبْد العَزِيز، حتَّى إنَّهُ