والثاني: يسقط؛ لأن الرضا بأخْذِ اليسار عوضاً عن اليمين عفْوٌ عن اليمين، قال ابن الصبَّاغ: وهذا أصحُّ؛ لأن ما جعله عوضاً، وهو قطْع اليسار قدْ حَصَلَ، وإن لم يقع بدلاً حكماً، بخلاف عِوَض الصُّلْح، إذا عرَفْتَ ذلك، فلو أن مستحِقَّ القصاص في اليمين طالَبَ الجانِيَ بإخْراج اليمين، فأخرج الجاني يسارَهُ، فقطعها المستحِقُّ فللمخْرِجِ أحوالٌ:
إحداها: أن يعْلَمَ أن اليسار لا تُجْزئ عن اليمين، وأنه يخرج اليسار، ويقصد بإخْراجها الإباحةَ للمقتص، فلا قصاص في اليسار ولا دية نص الشافعيُّ -رضي الله عنه- عليه، واتفق عليه الأصحابُ، وقالوا: إن صاحبها قد بَذَلَها مجاناً، وإن يتلفَّظْ بالأباحة، ووجَّهوه بطريقين:
أحدهما: أنه وجد فعل الإخراج مقروناً بقصد الإباحة، وقد يقام الفعْلُ مقام النطْق؛ ألا ترى أن تقديم الطَّعَام إلى الضيف نازلٌ منزلةَ الإذْن لفظاً.
والثاني: أن الفعْلَ بعد السؤال والطلب نازلٌ منزلة الإذن في المسؤول حتَّى لو قال: أخرج يدك أقطعْها أو مَلِّكني قطْعَها، فأخرج، كان ذلك إباحةً، ولو قال: ناولْني متاعَكَ، لألقيه في البَحْر، فناوله، كان كما لو نَطَق بالإذن فيه، حتى لا يجب عليه الضمان، إذا ألقاه في البَحْر، ولو قدَّم الطعامَ إلى مَنِ استدعاه، كان كما لو قال له: كُلْ، ولك أن تقول، على الأول: إنما يُقَام الفعْل مقامَ النطْق، إذا انضمت إليه قرينةٌ، كالعادة الغالبة في تقديم الطعام إلى الضيْف، وليس الإخراج، والحالةُ هذه، قرينة دالةٌ على قصْد الإباحة، وعلى الثاني: أن الفعْل بعد السؤال، إنما يكون كالإذْن في المسؤول، إذا لم يختلف المفعول والمسؤُول، كما في الأمثلة المذكورة، وهاهنا المسؤول إخراج اليمين، والموجود إخراجُ اليسارِ، قال الإِمام: وقد ذُكِرَ وجّه ضعيفٌ: أن الضّيفَانَ لا يستبيحون الطعام ما لم يتلفَّظ المقدَّم بالإباحة، ولا نأمن أن يَطْرُد صاحبُ ذلك الوجه مذْهَبَه هاهنا، ولم يعتقد طَرْد ذلك الوجّه هاهنا، بل قال: ينبغي أن يستدل بمواضع الوفاق على فَسَاد الوجُوه الضعيفة، ولا يُعْترضُ بالوجوه الضعيفة على مواضع الوفاق، لكن القاضي ابن كج ذَكَر أن أبا الحُسَيْن بن القطَّان حَكَى وجهاً: أنه يجب الضمان، إذا لم يأذن المُخْرِجُ في القطْع لفظاً، وحَمَل نصَّ الشافعيِّ -رضي الله عنه- على ما إذا أذن فيه صريحاً، والظاهرُ المشهورُ ما سبَقَ، ولا فرق بين أن يكونَ القَاطِع عالماً بأن ما يقطعه اليسار، وأن اليسار لا تجزئُ عن اليمين، وبين ألاَّ يكون عالماً بذلك، لكن إذا كان عالماً يُعَزَّرُ وعن أبي الطيب ابن سلمة: أنه يُحتمل أن يجب القصاصُ عند العلْم؛ لأنه قَطَع عضواً لا حَقَّ له فيه عن علْم بالحال، ومَن قصَد قطْع يَدِ الغير ظلماً، فلم يدفعْه المقصود، وسكت حتى قَطع فهل، يكون سكوته إهداراً؟ فيه وجهان:
أصحُّهما: لا؛ لأنه لم يؤخَذ منه لفْظٌ ولا فعْلٌ، فصار كما إذا سكت عن إتْلاف مالِهِ.