فإن كان فيما يتعلَّق بحدود الله تعالَى: فيبادر إلى تداركه، إذا بان الخطأ، وما لا يمكن تداركه، فحكم الضمان فيه، على ما هو مذكورٌ في مَوْضِعِهِ.
الحالة الثانية: إذا ظَهَرَ بقياسٍ خَفِيٍّ، رَجَحَ عنْده على ما حَكَم به، ورأى الصواب، فيحكم من بعد في أخوات الحادثة، بما ظهر له، ولكنْ لا يُنْقَضُ قضاؤه الأول، بل يمضيه؛ لأن الظنون المتعادِلَةَ لو نُقِضَ بعضُها ببعْض؛ لما استمر حكم، ولشق الأمر على الناس، ومشهورٌ من عُمَرَ -رضي الله عنه- أنه حَكَم بِحِرْمَانِ الأخ من الأبوين في المشرّكة، ثم شرك بعد ذلك، ولم ينقض قضاءه الأول، وقال: ذلك على ما قضيناه، وهذا على ما نقضي.
وما ينقض به قضاء نفسه، ينقض به قضاء غيره وما لا ينقض لا ينقض، لا فرق بينهما إلا أنَّه لا يتبع قضاء غيره وإنما ينقضه، إذا رُفِعَ إليه، وله أن يتبع قضاء نفسه؛ لينقض، ولو كان المتصدِّي للْقَضَاء قبله، مِمّنْ لا يَصْلُحُ لِلقَضَاء؛ ففي "المهذَّب" و"التهذيب" وغيرهما: أنه يَنْقُضُ قضاياه كلَّها، أصاب فيها أو أخْطَأ؛ لِصُدُورها ممَّنْ لا يَنفُذُ حكمه.
وقوله في الكتاب:"إلا إِذَا خالف أمرًا مقطوعًا به أو مظنونًا بخبر واحدٍ أو بقياسٍ جَلِيٌّ" يجوز إعلامه بالحاء والميم؛ لأن عن أبي حنيفة ومالكٍ -رحمهما الله- أنَّه لا يُنْقَصُ بخبر الواحد هو القياسِ الجليِّ، ولا بِكُلِّ مقطوعٍ به، وإنما يُنْقَضُ إذا بان له مخالفةُ الإِجماع، ولا ينقض ما وافق قول بعض العلماء، ثم لم يفيا بهذا الضبط، فعن أبي حنيفة أنه ينقض قضاء من بدأ القسامة بيمين المُدَّعِي، ومن أبطل السراية في العتق، ومن صحَّح بيع متروك التَّسْمية، ومن قضى بالشاهد واليمين.
وعن مالك: أنه لا ينقض قضاء من أثبت الشفعة للجار، فهذا هو القول الجُمَلِيُّ في الحكم الذي يُنْقَضُ، والذي لا يُنْقَضُ، وحاول في الكتاب ضَبْطَ ذلك، فقال:"وَإِذا لم ينْقَدِحْ في نَفْسِهِ إمكانُ الصَّوَاب انقداحًا له، وقْعٌ فله فَلَهُ النَّقْضُ" وذلك في النصوص، لصحة موردها، وصراحَةِ لفظها، وبُعْدِها عن قبول التأويل، في الأقيسة موضحها وموافقتها الأصول، وإذا لم تكُنْ كذلك، وتقارب النظران، فلا نقض، ويختلف الحال في ذلك بالمجتهدين، وآحاد الأدلَّة ثم تكلَّموا في صُوَرٍ فردةٍ.
منْهَا: لو قضى قاضٍ بصحَّةِ نكاحِ المفقودِ زوْجُها بعْدَ أربع سنين، ومضَى مدة العدة؛ ففيه وجهان:
أشهرهما، وهو ظاهر النص: حكمه منقوض بمخالفة القياس الجليِّ؛ بأنْ يُجْعَلَ حيًّا في المال، فلا يُقْسَمُ على ورثته، ويُجْعَلُ ميتًا في النكاح.