للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أحدهما: أنه يعرض عنه.

وأصحهما: أنه ينفذه، وهذا ما عليه العمل، وبه قال أبو حنيفة: أنه لو حكم بنَفْسِه، ثم تغيَّر اجتهاده تغيرًا لا يقتضي النقض، وترافع خَصْمًا الحادِثَةِ إلَيْه، فإنه يمضي حكْمَه الأول، وإن أدى اجتهادُهُ إلى أن غيره أصْوَبُ منه.

فَرْعٌ: المقلِّد المستقْصَى للضرورة، لو حكم بمَذْهَبٍ غَيْرِ مقلِّده؛ قال صاحب الكتاب في الأصول: إن قلْنا لا يجوز للمقلِّد تقْلِيدُ من شاء، بل عليه اتِّبَاعُ مقلَّده الذي هو أعْلَمُ عنده؛ فينقض حكمه، وإن جوَّزْنا له تقليد مَنْ شاء، فلا ينقض والله أعلم.

قَالَ الغَزَالِيُّ: ثُمَّ الحُكْمُ عِنْدَ اللهِ فِي البَاطِنِ لاَ يَتَغَيَّرُ (ح)، وَلا يَحِلُّ لِلشَّفْعَوِيِّ شُفْعَةُ الجَارِ وَإِنْ قَضَى بِهَا لَهُ الحَنَفِيُّ وَلَكِنَّ القّاضِي لا يَمْنَعُهُ مِنَ الطَّلَبِ اعْتِمَادًا عَلَى اعْتِقَادَ نَفْسِهِ.

قَالَ الرَّافِعِيُّ: حكم القاضِي قسمان:

أحدهما: ما ليس ناشئًا، وإنما هو تنفيذٌ لما قامَتِ الحجَّةُ عليه، فينفذ ظاهرًا، لا باطنًا، حتَّى لو حكم بشهادة الزور وبظاهر التعديل، لم يفد حكمه الحِلَّ باطنًا، سواءٌ كان الحكْمُ بمال أو نكاحٍ أو غَيْرِهِما، وبه قال مالك، وأحمد.

وقال أبو حنِيفَةَ -رحمه الله- يَنْفُذُ في العقودُ والفسوخُ ظاهرًا وباطنًا، حتى إذا قَضَى القاضِي بالنِّكَاح بشهادَةِ الزُّور، حَلَّ للمشهود له وَطْؤُها، وإذا قضى بالطلاق، حرم على المشهود عليه الوطءَ وساعدنا في الأملاك المطْلَقَة، أنه لا يَنْفُذُ فيها إلا ظاهِرًا؛ لنا: ما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّمَا أنَا بَشَرٌ، وإنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِليَّ، وَلَعَل بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بحُجتِّهِ مِنْ بَعْضٍ، فأَقْضِي لَهُ عَلَى مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ، فَلا يَأْخُذَنَّهُ، إِنَّما أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ" (١) ويُرَوى "إنما أحْكُمُ بالظَّاهِرِ، واللهُ يَتَوَلَّى السَّرائِر" (٢).


(١) متفق عليه من حديث أم سلمة، وله ألفاظ.
(٢) هذا الحديث استنكره المزني، فيما حكاه ابن كثير عنه في أدلة التنبيه، وقال النسائي في سننه: باب الحكم بالظاهر، ثم أورد حديث أم سلمة الذي قبله، وقد ثبت في تخريج أحاديث المنهاج للبيضاوي، سبب وقوع الوهم من الفقهاء في جعلهم هذا حديثًا مرفوعًا، وأن الشافعي قال في كلام له: وقد أمر الله نبيه أن يحكم بالظاهر، والله متولي السرائر، وكذا قال ابن عبد البرّ في التمهيد: أجمعوا أن أحكام الدنيا على الظاهر، وأن أمر السرانر إلى الله، وأغرب إسماعيل بن علي بن إبراهيم بن أبي القاسم الجنزوي في كتابه إدارة الأحكام، فقال: إن هذا الحديث ورد في تصة الكندي، والحضرمي، اللذين اختصما في الأرض، فقال المقضى عليه: قضيت عليّ، والحق لي، فقال -صلى الله عليه وسلم-: إنما أقضي بالظاهر، والله يتولى السرائر، وفي الباب حديث عمر: إنما كانوا يؤخذون بالوحي على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر =

<<  <  ج: ص:  >  >>