ففي هذا اختلف قول مالك فيما يستحب من ذلك، فروى عنه ابن المواز: يقطع التلبية إذا زاغت الشمس، وروى عنه ابن القاسم: إذا راح إلى المصلى، وروى عنه أشهب: إذا راح إلى الموقف، واختاره سحنون. وروى ابن المواز عن مالك: يقطع التلبية إذا وقف بعرفة.
ص: فمن الحجة عليهم لأهل المقالة الأخرى، أن القاسم لم يخبر في حديثه الذي رويناه عنه عن عائشة أنها قالت: إن التلبية تنقطع قبل الوقوف بعرفة، وإنما أخبر عن فعلها، فقال: كانت تترك التلبية إذا راحت إلى الموقف، فقد يجوز أن تكون كانت تفعل ذلك لا على أن وقت التلبية قد انقطع، ولكن لأنها تأخذ فيما سواها من الذكر من التهليل والتكبر، كما لها أن تفعل ذلك قبل يوم عرفة أيضًا، ولا يكون ذلك دليلًا على انقطاع التلبية وخروج وقتها، وكذلك ما رواه عبد الله بن الزبير عن عمر -رضي الله عنهم- في ذلك أيضًا وهو مثل هذا.
ش: أي فمن الحجة على أهل المقالة الأولى لأهل المقالة الثانية، وأراد بها الجواب على الأثرين المذكورين حاصله: أنه ليس فيما روى عن عائشة ما يدل على انقطاع وقت التلبية قبل الوقوف بعرفة، وإنما فيه أنها كانت تقولها إذا راحت إلى الموقف، فيحتمل أن يكون ذلك لأجل شروعها في غيرها من الأذكار، كما كان لها أن تفعل ذلك قبل يوم عرفة، فإذن لا يرد به السؤال المذكور، وكذلك التخريج فيما رواه ابن الزبير عن عمر -رضي الله عنه-.
ص: وقد حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، قال:"حججت مع الأسود، فلما كان يوم عرفة، وخطب ابن الزبير بعرفة، فلما لم يسمعه يلبي صعد إليه الأسود، فقال: ما يمنعك أن تلبي؟ فقال: أو يلبي الرجل إذا كان في مثل مقامي؟! قال الأسود: نعم سمعت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يلبي، وهو في مثل مقامك هذا، ثم لم يزل يلبي حتى صدر بعيره عن الموقف، قال: فلبى ابن الزبير".