للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإن قيل: كل واحد من الحديثين كلام مستقل مفيد فيعمل به، فما الحاجة إلى جعلهما واحدًا حتى نحتاج إلى هذا التأويل؟

قلت: قد ذكرنا لك أن أصل الحديث واحد، فبتقطيعه لا يزول المعنى الأصلي، ولئن سلمنا أن أصله ليس بواحد، وأن كل واحدٍ حديث برأسه، ولكن الواجب حملهما على أنهما وردا معًا؛ وذلك لأنه لم يثبت أن النبي -عليه السلام- قال ذلك في وقتين: مرةً من غير ذكر ذي العهد، ومرة مع ذكر ذي العهد.

وأيضًا أن أصل هذا كان في خطبته -عليه السلام- يوم فتح مكة، وقد كان رجل من خزاعة قتل رجلًا من هذيل في الجاهلية، فقال -عليه السلام-: "ألا إن كل دم كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي هاتين، لا يُقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده" يعني -والله أعلم- الكافر الذي قتل في الجاهلية، وكان ذلك تفسيرًا لقوله: "كل دمٍ كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدميّ"؛ لأنه مذكور في خطاب واحد في حديث، وقد ذكر أهل المغازي أن عهد الذمة كان بعد فتح مكة، وأنه إنما كان قُبْلُ بين النبي -عليه السلام- وبين المشركين عهود إلى مُدد، لا على أنهم داخلون في ذمة الإِسلام وحكمه، وكان قوله -عليه السلام- يوم فتح مكة: "لا يُقتل مؤمن بكافر" منصرفًا إلى الكفار والمعاهدين؛ إذْ لم يكن هناك ذمي ينصرف الكلام إليه، ويدل عليه قوله: "ولا ذو عهد في عهده"، وهذا يدل على أن عهودهم كانت إلى مُدد؛ ولذلك قال: "ولا ذو عهد في عهده"، كما قال تعالى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} (١)، وقال: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} (٢)، وكان المشركون حينئذٍ على ضربين:

أحدهما: أهل الحرب ومَن لا عهد بينه وبين النبي -عليه السلام-.


(١) سورة التوبة، آية: [٤].
(٢) سورة التوبة، آية: [٢].

<<  <  ج: ص:  >  >>