ولا خلاف بين الفقهاء أنهم إذا أجازوه بعد الموت فليس لهم أن يرجعوا فيه، وروي عن طاوس وعطاء أنهم إذا أجازوه في الحياة جاز عليهم.
ص: ثم تكلم الناس بعد هذا في هبات المريض وصدقاته إذا مات من مرضه ذلك. فقال قوم -وهم أكثر العلماء-: هي من الثلث كسائر الوصايا.
وممن ذهب إلى ذلك: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد -رحمهم الله-.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: جمهور العلماء من التابعين وبعدهم منهم: الليث بن سعد، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة، والشافعي، ومالك، وأحمد، وأصحابهم، وعامة أهل الحديث؛ فإنهم قالوا: هبات المريض وصدقاته وعتقه من ثلث ماله لا من جميع ماله.
ص: وقالت فرقة: هو من جميع المال كأفعاله وهو صحيح.
وهذا قول لم نعلم أحدًا من المتقدمين قاله.
ش: أراد بهؤلاء الفرقة: داود الظاهري ومن تبعه، قيل: وعطاء أيضًا؛ فإنهم قالوا: كل ذلك يعتبر من جميع المال. وهؤلاء شذوا عن أقوال السلف، وخالفوا الجمهور، فلا يقبل منهم.
ص: وقد روينا فيما تقدم من كتابنا هذا عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت:"نحلني أبو بكر - رضي الله عنه - جداد عشرين وسقًا من ماله بالعالية فلما مرض قال: إني كنت نحلتك جداد عشرين وسقًا من مالي بالعالية فلو كنت جددته وحزته كان لكِ وإنما هو اليوم مال وارث، فاقسموه بينكم على كتاب الله تعالى".
فأخبر أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - أنها لو قبضت ذلك في الصحة تم لها ملكه، وأنها لا تستطيع قبضه في المرض قبضًا يتم لها به ملكه، وجعل ذلك غير جائز كما لا تجوز الوصية لها، ولم تُنكر ذلك عائشة على أبي بكر - رضي الله عنهما -، ولا سائر أصحاب النبي -عليه السلام-، فدل ذلك أن مذهبهم جميعًا كان فيه مثل مذهبه، فلو لم يكن لمن ذهب إلى ما ذكرنا من الحجة لقوله الذي ذهب إليه إلا ما في هذا الحديث، وما ترك